مدينةٌ، يختلف نهارها عن الليل.

النهار عمل دؤوب، وتوارٍ خلف مقاعد الدراسة لشباب يغلف الطموح أدمغتهم الفاعلة، وأسْرةٍ تأخذ البعض قسراً الى نوم من سهر الليل. صخبٌ جوها، وزحمة سير لا تشبه تلك الزحمة المنفرة لشوارع بغداد، وحياة بوقع سريع، أصحابها نشطون، لا يكلون العمل ولا منه يملون، حتى مجيء الليل وموعد فتح الحانات أبوابها الى الساعة الثانية عشرة، ونوادٍ ليلية يستمر بعضها حتى الصباح. الروس هم هكذا يعملون بجد ويمرحون كذلك بجد. عاصمتهم هذه مدينة كبيرة، بنوا فيها من شواهد التاريخ الكثير، وأضافوا لها من عظمة الحاضر أكثر، تستهوي القادم في أن يتعرف عليها من قريب، أول شواهدها الكرملين، القلعة، الشاهد الحي لماضٍ مليء بالأحداث، مُمْتَدٌ الى حاضر يعج كذلك بالأحداث، البداية حصن أقامه الأمير يوري عام ١١٥٦، وبرع في اختيار موقعه فوق تل على الضفة اليسرى من نهر موسكوفا، ومن بعده شيّدَ القيصر قصراً كبيراً في القرن الرابع عشر، نمت الى جانبه قصور أمراء، ليكون الموقع مجموعة قصور وكنائس، يحيط بها سياج بطول يقترب من الأربعة كيلومترات وارتفاع يصل الى خمس وعشرين متراً. تتربع على زواياه مواقع حراسة على شكل قلاع صغيرة كانت في وقتها قادرة على القتال دفاعاً عنه رمزاً يعتز به الروس، يقولون عنه "لا شيء أعلى من موسكو الا الكرملين، ولا شيء أعلى من الكرملين الا السماء" حزنوا شعباً بأكمله على هدمه يوم تمكن منه المغول، وأعادوا بناءه بعد رحيلهم غزاة ليكون بفخامة أكبر في العام ١٣٣٩، ومقراً للحكومة أفخم، ومكاناً لسكن القيصر وأمراءه القريبين أريّحْ، ومجالاً للعبادة أرحب، ومتاحف يستعرضون في أجوائها عظمة الدولة وقوتها. 

تقدم المرشد خطوة ليكون مسموعاً، قدم شرحاً عن هذا القصر القديم وقاعات سميت على أسماء الأوسمة التي تُمنحُ للشجعان والمتميزين، أولاها جورجيوس، وسام تكريم للعسكريين المتميزين أشخاصاً وكذلك وحدات، قال عن هذا الوسام قد منح إحدى عشر مرة طوال تاريخه لعسكريين ووحدات،ثم أشر على لائحة أسماء محفورة على زاوية من الجدار هم من استحقه بجدارة، وأكمل الشرح قائلاً لقد أوقف السوفييت منح الوسام، وأعاده الروس الآن، والتفت صوب طاولة قائلاً أن الرئيس يستخدم القاعة حاضراً لمنح رتبة الجنرال، وتكريم خريجي الكليات العسكرية المتميزين، وكذلك رئاسة اجتماعات مجلس الدولة.

وثانيها وسام القديس فلاديمير، من جلب المسيحية الى روسيا في القرون الوسطى، صورٌمن القرون الوسطى تغطي الجدران، تستخدم القاعة في الوقت الراهن مكاناً لتوقيع الاتفاقيات مع الدول الأجنبية، ولتوقيعها طقوس اذ ينزل وفد الدولة الضيف من الجهة اليمنى للسلم، وينزل الوفد الروسي من جهته اليسرى،يتقابلان عند التقاء الجهتين، وينزلان معاً الى طاولة التوقيع.

الثالثة قاعة ايڤان الرهيب، صورها تمثل قصة الخلق في الايام السبعة، وقصص دينية بينها قصة يوسف، تستخدم حتى الآن للاحتفال بالانتصارات.أما الرابعة فكانت لكاترينا، الصور التي على الجدران لحكام روسيا في العصر الحديث، تستخدم لعقد المؤتمرات الصحفية للرئيس، وأخيراً الخامسة أخذت اسم اندراوس أول تلامذة السيد المسيح، استخدمت من قبل للتتويج وتستخدم في هذا الزمان لاستقبال ضيوف الرئيس وتقديم الهدايا.                            

انعطف المرشد يميناً دخل جناحاً قال عنه كان جناح الامبراطور، غرفة مكتبه، ومكان استراحته، سريرفراشهأبقيت من شواهد التاريخ، وأبقيَّ كرسي له عالٍ يشبه المنبر، جوار شباك يطل على ساحة يوحنا، حيث التجمهراليومي للناس استعداداً لسماع المرسوم الامبراطوري الذي يقرأه الحاجب يومذاك.                                                              

نهايةالقصر مثل بدايته زخرفة جميلة وطلاء بماء الذهب، يتخيل الماشي بين ممراته، وأبواب ترتفع عدة أمتار، وشبابيك لطابقين وإدامة فريدة للمكان وكأن المبني قد شيّد بالأمس. ويتخيل العارف آلام آخر قيصر نيقولا الثاني وعائلته يوم خلعوا من على العرش وساروا في بؤس بين ممرات لهذا القصر لم تتغير أوضاعها عبر التاريخ.

قريب من هذا القصر، قصر بناهالشيوعيون فخماً في العام ١٩٦١ ليكون مقراً للحكومة، وبات اليوم مقراً للرئيس بوتين، يستدل على وجوده في القصر من وجود العلم الروسي قائماً يرفرف على ساريته أعلى السطح....قصرٌ صار محمية، لا يقترب منها السواح.