ما أن ودع الرجل دنياه، رغبة في عدم مجاراة وقعها المر في عمر التسعين، سارع الأبناء إقامة عزاء له في الجامع القريب الى سكنهمفي قضاء الحسينية. المكان الذي حطت به راحلتهم أولاً بعد مغادرتهممدينة العمارة،عام ٢٠٠٣ يوم استلام الابن الأكبر قحطانوظيفتهمعاون ملاحظ في أمانة العاصمة بغداد.
كبير العشيرة أو رئيس فخذها في الحسينية الذي سكنها يوم بدأت الدولة في ثمانينات القرن الماضي، تخطيط مدن تجاور بغداد أملاً في تخفيف الضغط الآتي من تكاثر السكان عليها عاصمة للبلاد، هو من أشار لابن عمه أبو قحطان السكن في الحي الذي يقيم فيه وباقي أبناء العشيرة القادمين من مدينة العمارة، قال يومها:
جميع أبناء عمومتك يسكنون هذا الحي في هذا المكان الواقع شمال شرق بغداد، وعوائل أخرى من عشائر جنوبية أخرى تسكن باقي الأحياء، فقرر السكن في هذا المكان رغبة منه في الحفاظ على التقاليد، والشعور بالاطمئنان بعيداً عن أرض الأجداد، فآثر السكن فيه وودع الدنيا كذلك فيه.
تكاثرت الأعداد، أزدحم المكان، تغيرت التقاليد، ضعفت سلطة القانون، صارت الأحياءتسمى بالتسميات الدارجة على العشائر الساكنة، وصارت الثقافة والقيم السائدة عشائرية، وأصبح العيش وسط القضاء أقرب وقعاً الى الريف القائم لمدن الناصرية والعمارة، وأبعد كثيراً عن وقع الحياة البغدادية. الدلالة وسطه أسهل بذكر العشيرة دون الاسم الرسمي للمكان.
توقف السائق عند جوقة شباب ليسأل، لم يجد الإجابة، فالواقفون من أبناء عشيرة تعادي تلك العشيرة، (تگاومها) لخلاف على سرقة دجاجة، وتكرر السؤال عند جوقة ثانية وثالثة وقفت الى جانبها سيارة الجيب، تقدم شاب حليق الرأس بطريقة تظهر شعره المنشى مثل ذاك الشعر الموضوع فوق خوذ المقاتلين الرومان، لونة أسود كستنائي، سأل عن دوافع السؤال، كان حذراً من الإجابة، فالعشائر هنا،كل منها مطلوب للآخر وجميعهم مطلوبين الى القانون، فاعتادوا التغطية وعدم الإجابة على أسئلة الغرباء، بل والاندفاع أحياناً وفي حالات الشك بسوء النوايا الى التضليل في إجابات تعطي عنواناً بعيداً عن المكان المطلوب.
اطمأن عباس بعد أن عرف الغاية، قراءة الفاتحة على روح وجيه من أبناء العشيرة، قفز الى السيارة، مثل قرد يتنطط.
قال عد الى الخلف، ثم التفت الى السائق طالباً اتباع اشاراته، وبدأ سلسلة أوامرمتواصلة ترهق أعصاب من كانت أعصابه ناقعة في ماء بارد قائلاً:
رَكِزْ على الطريق، هذا تكتك سيقطع صاحبه الشارع عرضاً.
إبقِّ متيقظاً سيتبعه آخر وآخر هم هكذا يسيرون، سلسلة بالرتل المفرد مثل رهط مشاة يسير جنوده على أرض وعرة.
التكتك الأول يصدر صوتاً مجسماً للمطربة غزلان بعلو نبرة تشبه تلك التي تحدث في قاعات الأعراس تصم الآذان، ومن بعد هذا التكتك، تكتك آخر يكاد يلامسه، من وسطه يظهر صوت الفنان حاتم العراقي، يغني مقاماً بوقع يعلو مستواه الأول قليلاً حسب الظن، لفقدان معايير القياس، وثالث فيه مطربة ريف،يكاد صوت الطبل وآهات المنتشين تخنق صوتها الشجي، ومع هذا يمكن تمييزها من بحة الصوت، أنها البنت الأكبر لحمدية صالح.
ترك التكتك الرابع في خط سيره، مدركاً بفطنته أنه بعيد نسبياً عن النزول الى معترك الشارع والتأثير فيه، وأدار بصره محذراً من سيارة كيا جاءت تسير بالمواجهة عكس السير، يمسك سائقها المقود بيد واحدة، ويده الأخرى تدلت من على الباب اليسرى كأنه لم يسيطر عليها، أو وضعها هكذا صيغة استعلاء على الشارع وثقة مفرطة بالذات،ولتأكيد هذا الاستعلاء والثقة لا ارادياً، وضع بين أصابعه سيجارة لم يشاهد أنه قد أخذ منها نفساً، حمولته راكب واحد وخروف أبيض.
قال عباس:لا تنحرف عن طريقك.
ولم ينحرف هو عن طريقه، كاد الأمر يصل حد الصدام، لولا نباهة السائق، وقوة أعصاب المقابل.
توقف السير، تعالت أصوات المزامير مثل زفة عرس بغدادية، ترجل عباس من مكانه، اتجه الى سائق الكيا المقابل، تكلم معه بكلام غير مسموع، وعاد مسرعاً لينبأ السائق أن ذاك السائق من عشيرته، سينحرف عن خط السير احتراماً له، ولولاه لجلب عشيرته طرفاً لفض النزاع.
استمرت سيارة الجيب في شارع يتنقل وسطه المارة بين السيارات كأنهم في موسم حج، لا يعيرونها اهتماماً وأصحابها كذلك لا يعيرونهم الاهتمام، كانوا يشتمون بأصوات لا تسمع، كأنهم تعودوا على نمط سير لم يكن موجوداً الا في هذه المدينة الصاخبة.على أرصفته، معامل حدادة، أصوات التقطيع لألواح حديدها، بالمنشار الكهربائي تخدش حياء السمع، تزيد من تشويه الصورة السمعية لطرب تتداخل وسطه الأغاني والألحان وجنس المطربين، الى جوارها ماكنات لحيم تتطاير شرارتها، على المارة دون حساب. وسطه جزرة افتراضية أراد المخططون بوضعها تعريف الطريق بشارع نظامي ذو اتجاهين، فأضحت هذه الجزرة الترابية سوقاً شعبياً تملأه بسطيات تجاوزت على التخصص في البيع، أوكل أصحابها شأن الدعاية لبضائعهم الى أجهزة صوت من أقراص مدمجة، تسمعها تباعاً:
كيلو تفاح بألف، الموز بألف، البرتقال بألف، كل كيلو من كل شيء بألف، أسطوانة مشروخة تتكرر،يختلط صوتها مع صوت اسطوانة أخرى من جار يبيع الدجاج يعلن بالطريقة ذاتها:
الدجاجة بخمسة، مذبوحة بخمسة، منظفّة وجاهزة بخمسة.
الى جواره دهين أبو علي يعلن عن دهينه بالدهن الحر بالطريقة ذاتها.
وهكذا يستمر الحال حتى نهاية الشارع ليعرج عباس بإشارة منه إلى شارع أو شبه شارع ترابي زحفت على باحته البيوت، لتقام عليها مضائف، ودواوين، ودكاكين، رفعت عليها رايات طوائف وعشائر، أراد أصحابها الاحتماء بها رمزية ذات دلالة، وأبقوا فضلاً منهم على الدولة ممراً يصلح لنفاذ سيارة سائقها نبيه.
توقف عباس في نهايته، سأل:
هل تعرفون العودة الى المكان الذي بدأنا منه؟.
أجاب هو عن سؤاله واثقاً، لا يمكنكم العودة.
ساوم على مبلغ لإكمال مشوار الدلالة والعودة.
قال السائق بلهجة فيها احتجاج وصرامة:
لكنك لم تكمل المشوار، ولم تدلنا على المكان، فأجاب واثقاً من وقوفه على أرض تمتلكها العشيرة:
خمسون ألفاً سأوصلكم الى باب الجامع، من طريق قريب، شرط استلامها مقدماً.
قال السائق: ومن يضمن أنك لم تغدر بنا.
رد وابتسامة خبيثة تعلو وجهه الأسمر:
أنا أخو هدله أغدر بكم وانتم ضيوف مدينتي وعشيرتي.
استلم الخمسون الفاً ورقة نقدية واحدة وضعها في جيبه، سار في طريق آخر، نصفه شارع، ونصفه الآخر مستنقع، حتى وصل الجامع المنتصب بهياً على شارع نظامي، توقف قبله بمائة متر أشار اليه ثم نزل، ليغوص بين البيوت كأنه واحد من الجن في مدينة لا يمكن أن يعيش وسطها الجن. وهي بهذا القدر من الصخب والزحام.