مطار بغداد لوحة فنية رسمها فنان بارع، تكرار السفر منه واليه يُشْعرُ الناظر وكأن ذرات الغبار التي علقت فوق أقواسه الاندلسية وعلى صور التراث طوال سنين الاهمال بدأت تزال تدريجياً، وكأن أهل المطار أو بعضهم أدركوا ضرورة محو ترسبات العقل من أهوال السياسة والكسل، وشرعوا بالتنفيذ.

درجتْ على أرضه الاسمنتية طائرة الخطوط القطرية متجهةً صوب الدوحة ومنها الى أوربا، وَقَفَت بداية المدرج، أقلعت مرتفعة قبل بلوغها نصفه الأول، وكأن طيارها يستعجل الارتفاع، لرحلة له هي الأولى من بغداد أو لبقايا قلق قديم علق في قعر بوصلته الشابة لم تمحوه أيام تتجه فيها بغداد الى الهدوء، قالها الشاب الجالس الى الجنب، فأجاب آخر أو لأن الريح في الواجهة استعجلت الاقلاع.

دارت نصف دورة لتأخذ طريقها باتجاه الجنوب، انخفض جناحها الأيمن قليلاً لإكمال نصف الدورة الآخر، بانت من تحته بغداد صورة عروس تشكو أهلها قبل الزفاف، موكب عرسها وساحة الاحتفال وباحة بيتها والجيران انحسرت من حولهم الخضرة، وأنْبِتَ بَدل النخيل وأشجار الرارنج بيوتاً تشبه حاويات رصت قبل الشحن، وبان من بعيد وحش التصحر كمن يريد التهامها عروساً لم تهنأ بليلة دخلتها.

الصورة تتغير وشكوى العروس تتبدل الى عتب على العريس وأهله وسؤال مع دمعة نزلت غصباً عن الجنائن المعلقة، والنهرين وقلق من غد تعتقده سَيُغيّر من طعم حياتها بعد العرس. وصاحب ينتظر استقرار الطائرة عائمة في أجواء خريف هي الأحلى في العراق، يلحظ من تحتها دجلة العملاق نصف نائم، هدأ الشخير في مجراه وتكاثرت وسطه جزر الرمل وعلى حافاته حزم القصب تحرس غفوته والمنام.

قال سأترك دجلة نائماً وأغادر خوفي من الغد والتصحر وعراقيل البناء وأفعال السياسة، وشاح بنظره صوب الأهوار، سأل عن موقعها وهل بقيت متعامدة على خط الطيران ليقارن صورها مع خزين الذاكرة عنها يوم كان يطير فوقها بطائرة سمتية مستمتعاً بخضرة قصبها وزرقة مياه تتوسدها أكواخ قصبٍ، وفحول الجاموس في ثمانينات القرن الماضي، فلاح له التواء النهر جلياً وقد اتسعت رقعة مجراه وانتشرت بقع مياه تسربت من حوله، ابتعدت عنه مرة واقتربت في أخرى، كأنها تريد احتضانه قبل موت محتوم. جال بنظره يميناً والى الشمال، غير موقع جلوسه في الطائرة الى الجهة الأخرى، قال عن المشهد بقايا هور، سأل بلسان محموم أين القصب والبردي وخضرة نبت يانع؟. وسأل:

أين المشاحيف وفوانيس ها وأسراب الطيور المهاجرة والصيادون بفخاخ تركها الاجداد؟.

أين ذاك التنور ودخان يتصاعد برائحة خبز الأمهات وامرأة خَزَنتْ جمال الطبيعة في وجهها الأسمر، وعباءةٌ لفت وسطها تقف شامخةً حول التنور؟.

ماذا حل بحورية الهور وحامل الفالة وبقايا السومريون؟.

لم يجب أحداً على أي من أسئلته الوهمية لأن غالبية المسافرين مشغولون بهموم ليس من بينها الهور.


ترك الأسئلة وحملق في السماء، لاحت بمواجهته بقعة ماء لا حدود لها، انفتحت أساريره، التفت منتشياً ليقول هكذا كان الهور مسطح ماء أبعد من أن تحدد حافاته العين، كان وسيبقى مركز الكون.

تابع امتداداته شاهد جرفاً مقوساً وممر وباخرة تدخل وأخرى تغادر وجزيرة تخنق نهايته، عاد من التفاتته مكتئباً ليقول هذا ليس هو الهور، وأتم القول، انه الفاو ساحل العراق على الخليج، وأرض جرداء وبداية ماء مالح لم تشم فيه رائحة الهور. بسببها وصدمة هروب الهور أغلق نافذة الشباك وراح يفتش في ذاكرته عن صورٍ لأرض الفاو يوم ملأتها حفر القنابل ومتاريس جنود وطائرة سمتية هوت بقائدها محمود وجنود أبطال يخوضون في مملحتها، ومعركة كانت قرابينها ستون ألف، واستمر هكذا يلوك في ثقوب ذاكرته حتى أخذته غفوة نصفها احباط، ونصفها الآخر احباط.

١١/١٠/٢٠١٧