وقف سامر عند صالة القادمين الى مطار ڤون دوڤو،المؤشر واحد من أربعة مطارات دولية تحيطبالعاصمة الشقيّة موسكو،تلبي جميعها الحاجة المتزايدة الى السفر وتغطي واقعالتحويل في الاتجاهات (الترانزيت) الى دول عديدة في آسيا وأوربا والشرق الأوسط، منتظراًوصول الطائرة العراقية بشوق،تخيل قدره شريطاًيمتد وسعاً في ذاكرتهالمتعبةأربعة عقود، حَمَلها في عقله المشطور نصفين، أوله عراقي مملوء بذكريات الشباب وقدر من التمرد وبعض شعارات عن الاشتراكية وديكتاتورية الطبقة العاملة، وفراق أمٍبقيَّ دفئ حنانها طافياً فوق سطحالذاكرة، عصيٌ على الكبت في دهاليز اللا شعور طوال تلك العقود.

وثانيه نصف روسي تتدافع في خلاياه أفكار مثيرة عن الأهداف التي لم يُمهل الزمن تحقيقها ومآل حياةوأحفاد روس أخذوا من أمهاتهم الروسيات جل الصفات الوراثية وأخذوا من البيئة التي عاشوا فيها كل طبائع الروس، فتشكلت عقولهم ومعالم سلوكهم والطباع روسياً حتى أصبحوا في نهج التفكير جزءاًمن الروس.

قال يدفعنيوقعالتفاعل الثقافي الضعيف بينيوبينهم الى الغوص في ماضٍجُلَ خزينه عراقي، لا مجال إلى إخراجهإليهم حكايات عن بغداد يوم كانت عروساً يتملقها الفتيان، وعن الأهل قبل الطوفان،وعن كفاح الشباب وخيبات أملللعيش في وطن حر بلا قضبان، إذْ لميعد يسمع أحدهمتلك الحكايات باللغة العربية التي لم يحسنوا نطقها، ولم يتمكنوا من تخيل وقعها أحداثاً في المكان الذي لم يألفوه،وقال بقدرٍ من الحسرةِ لقد آلمتني الغربة، وهدنيهذا القلق اللعين عن وضعي عائماً بين شظايا الماضي والحاضر، وفشل في التفسير لصالح التهوين من هذا القلق، وعندما هرولتُ بعيداً الى الأمام عَلّيَّأحسب النهايات أياماً أو حتى سنين،أرهقني الحساب، هرولتي بين القلق والطمأنينة يا صديقي أرغمتني على طلب اللقاء.

قلت لحظة عناق من علىالبلاطة الأولى ما بعد الخط المؤدي الى صالة الاستقبال،ألهذا طلبتني أيها الصديق المجنون؟.

أجاب لم يعد مسموحاً لي الطيران، ولم يعد في العمر بقية أبدده في الطيران.

خطى خطوات خارج الصالة، أشر الى سيارة تقف في المكان المسوح، قال هذه التويوتا خاصتي اشتريتها بالتقسيط، ستجد منها آلاف ومن غيرها باقي العلامات ملايين مملوكة جميعها الى المصارف التي تُقرضُ بسهولة أسهمت في اختفاء السيارات الروسية من شوارع موسكو وغالبية المدن الروسية، وبسببها وتحول أسواق الشرق باتجاه الغرب اغلقت الفولگا مصانعها وكذلك فعلت الموسكوڤيج، وإذا ما حاولتَ التفتيش عنها في زحمة السير للأيام الثلاثة التي ستقضيها في هذه البلاد سوف لن تجد منها الا واحدة هنا وأخرى هناك تسير متبخترة فخورة بانتمائها الى حقبة الاتحاد السوفيتي، لا يريد صاحبها الاعتراف بخسارة الشيوعية.

لم يكمل حكايته عن سيارات الاتحاد السوفيتي التقليدية، حتى دخل الشارع المؤدي من المطار الى موسكو، بدأ بوصفه شارعاً عريضاً يخترق غابات تغطي معظم مساحة العاصمة التي تمددت في السنوات الأخيرة لتكون من كبريات المدن العالمية، ومن أكثرها سكاناً يصل تعدادهم الى عشرين مليوناً في النهار منهم ثلاث يتركونها بعد انتهاء ساعات العمل.

وهو غارق في طرح المعرفة عن هذه البلاد،أشر على مجمع فخم للتسوق ومنه بدأ شرحاًمفصلاً عن مدخل طريقسار باتجاهه، قال عنه طريق دائري يحيط بموسكو التي سندخلها من الجنوب، طوله يزيد عن المائة كيلومتراً بقليل، له خمس مجالاترواحاً ومثلها للمجيئوآخر لطوارئ الاسعاف والشرطة والمواكب الرسمية.

من جنوبه دخلالمدينة، قصد وسطها حيث الشقة التي يقيم منذ ثلاثين عاماً، في بناية لا تبعد كثيراً عن الساحة الحمراء، قديمة تتوسط بنايات تناثرت بشكل متسق، لم تأخذ من المساحة الخضراء لهذه المدينة الكبيرة الا جزءاًوأبقت أجزاءً تتنفس منها، لم يفكر رؤساء بلدياتها ومسؤوليها اقتطاع بعضٍ لتشييد مركز تسوق أو توزيعه قطعاً سكنية لعبيد السلطان وأمراء الحروب، ولم تخدش تصاميمها في أوج سني الاضطراب ما بعد الشيوعية حياء التصميم العام لها مدينة ولدت حسب دفاتر النفوس التاريخية عام ١١٧٤.

٢٧/٥/٢٠١٨