أكثر من ثلاثين مليون سائح من دول العالم يدخل فينيسيا سنوياً، عدد هائل، عند النظر من زاويتهالى الشارع والمركب والماء تظهر المدينة وكأنهاظهرتأصلاً لأغراض السياحة والاسترخاء، وان نقصت فيها الخضرة وسقط أحد أركان ثالوث القول (الماء والخضراء والوجه الحسن)، وحل محله ثنائي القول (ماءٌ ووجه حسن)، لا يقل عنه أثراً ومتعة شعورطرفاه جمال مفرط لآلاف الحسان تملأ جزر المدينة ووفرة خليط ماءٍآتٍ من عشرات الأنهار ومن بحر لا ينضب أبقاهقولاً ذا قيمة وأبقى العوم على خليط الماء عامل ديمومةواستمرار لجزر المدينة.

الرجال والنساء بأعمار الوسط وقريب من الكهولة يتجولون بين ترع الماء وعلى أرصفة شوارع الماء، يقفون أحياناً عند كنيسة علت سقوفها لوحات رسمها فنانون عظام، ومتحف تاريخ حوى مقتنيات شعب له حصة في التاريخ مئات من السنين وأبطال حروب ورجالات سلام ومكتشفون كتبوا التاريخ.ويقفون مرة أخرى عند تمثال لواحد من أهل المدينةوقارب قديم يرممه نجاروقد ابيّضَ شعر رأسه وتهدلت عضلات يديه.

والشباب من جانبهم ولدٍ وبنات عند اقتراب الظهر والى انتصاف الليل يملؤون مقاهٍوباراتكثرت في الأزقة وبين البيوت، يضحكون، يشربون، يمرحون كمن يريد الواحد منهم اكتساب طاقة عملٍ ليوم جديد أو ينفض عمداً هموم الحياة من جديد.

مئاتمنهم شيب وشباب في يوم مثل هذا أشّرَ الهاتف النقال كونه مشمس، وأبقته الطبيعة غائماً، ملفوف بضباب بحر رطب،يتجهون جميعاً الى جزيرةمورانو،القريبةمسافة مِيلٍ عن جزر فينيسياًالأخرى، يسألون أولاً عن متحف الزجاج في قصر جوستينياني وعن كنيسة ماريا سان دوناتو معلمان يجعلان الجزيرة القرية القديمة متحف زجاج عائم.

يظهر القصر متحفاً وتاريخ صناعة زجاج احتكرتها الجزيرة قرونواشارات لعرف عمره قرون يمنع أحدا أن يعمل أو يتعلم نفخ الزجاج إذا لم يكن مواطناً مورانياً ويمنع الصناع من مغادرة الجزيرة للعمل خارجها، وتاريخ لها كونه الڤينيسيون يوم أصروا على نقل هذه الصناعة بأفرانها الى هذه الجزيرة بهدوئها حفاظاً على السلامة العامة منذ القرن الثالث عشر الميلادي وخطوات تَطُوْرها حتى صارت وَصنّاعها بمنزلة أولى على أوربا بلا منافس، وأبقوها هكذا لها الدور الريادي بلا منازع. وفي زواياه متحفاً ملفتاً وعلى رفوف حدد أمكنتها مهندسون فنانون، نماذج زجاج مصنوع منذ بداية التحول من الصيد وانتاج الملح الى صناعة الزجاج ثريات مذهبة ومزهريات من كل الأنواع وأواني مائدة متعددة الأحجام ومصابيح ملونة وأساور وأقراط.

ومن بعد هذا تظهر الكنيسة ورصيفها الفسيفسائي معلماً آخراً، وأعمدة رخام تحمل أقواس عمارة رومانية وأرض من الموزاييك ومساطب جلوس ومكاناً للاعتراف، عند النظر داخلها يميناً والى الشمال يتبين هي في الاجمال متحف ولوحة. قريب منها صالة عرض يملأ خاناتها زجاج مصنع يدوياً وفرن لصناعة الزجاج، مفتوحان طوال النهار، يقفبمواجهالفرن رجلانأحدهما ستيني يمسك أنبوب نفخ يخرج كوة عجين يشبه لونها قطعة من الشمس وقت الغروب، ينفخ فيها حتى تتضخم بالحجم الذي يريد، يضع بيده مقصاً وآلة لي من حديد،تطاوعه العجينة كما يريد، يعيدها الى الفرن ثانية، يحافظ عليها عجينة تتلوى من جديد، ينفخ من جديد ويقص وَيَلْوي من جديد، يتبختر عارضاً تمثال غزال جميل، يلتفت الى من حوله، طفل يمسك يد أباهمشدوداً يشاهد بإمعان وأم مستسلمة لمشهد أرادتهسبيلاً لتعزيز غريزة الاكتشاف عند ابنها الوحيد.

يحل المساء مستعجلاً،تنتهي فترة التجوال، ينقسم إثرهاالسواح جماعات حسب الأعمار بين عشاء على شموع موائد البحر ونديم يقصد بار وبين صاحب أطفال عاد بهم وقد اعتادوا النوم مبكراً، وشيخ لا يقاوم النعاس.

١٩/١٠/٢٠١٧