معالم العاصمة كثيرة، رموز لها تشد أهل الحاضر الى صفوة الماضي كثيرة، يوم تجوال فيها أو بينها لا يكفي، ولا يُشبع نهم الاطلاع عليها مجرد مرور عابر، ولا أيام تغدو كافية لتقليب صفحات تاريخ امتدت أحداثه فاعلة في خاصرة الزمن سكين قصاب شاطر.يوم الأحد بدا مناسباً ليكون وصلاً بيننا وبين أهل التاريخ الحافل، بدايته مع مهنة الكتابة والاعلام أداة توثيق هذا التاريخ، تسحبك من حيث لا تدري الى متحفها(متحف الأخبار Newseum)، تستقبلك بعد تفتيش عند مدخله المحكم آلياً مرشدة، شابة أنيقة، تعطيك معلومات أولية عن ست طوابق لهذا المتحف، وسطح مفتوح يقدم منظراً لبعض معالم المدينة جميل، تنصحك أن تبدأ من الأعلى لتنزل أو بالعكس تعدو صاعداً من طابقه الأرضي، فالأمر عندها سيان، تقف مجبولاً لتقرر،فيقع نظرك على طائرة سمتية معلقة بأسلاك حديد كتب تحتها أول طائرة تستخدمها الصحافة لتغطية الأحداث، تُغريكَ أن تصعد الى الأعلىلترى ذاك السطحالمشرف وامتداد بصر فسيح، تأخذ من على صهوته صورة وتنزللاهثاً فتقابلكأول صحيفة صدرت عُلقِتْ نسختها، وأول مطبعة صورتمعداتها، وتمثال طباع يتصبب منه عرق المهنة المالح. في الواجهة لوحة كتب على سطحها الأنيق أسماء قتلى الصحافة الأمريكان وبعض المشهورين من عالم فسيح. تجارب الصحافة أسقطت صوراً على الجدران، جنبها حيطان مصقولة استخدمت شاشات لعرض أفلام أحداث عالمية وأمريكية وَثَقتّها صحافة بدأت حرة، تجاورها معارض عن معدات تصوير ولقطاتلقادة انقلابات وجنود حروب، من بعدها مشاهد كوارث طبيعية وأخرى أنتجها الانسان، حصةالحادي عشر من سبتمبر حائطاً كاملاً، عرضت عليه صحف غطت الحدث بإمعان، أخذت جريدة الحياة مكاناً بينها، صحيفة عربية وحيدة بين كم هائل من الصحف العالمية. على الحائط القريب معرض صور لكلاب الرؤساء،جواره خطواتهيكل حديدي أعوجت زواياه القائمةوسقطت من جسده قطع، أخذ له مكاناً فسيحاً لعدة طوابق، كأنه يقيم في قبر بعد شموخلسنين فوق برج التجارة العالمية قبل اسقاطه من قبل الارهاب.

تسحبك المشاهد وأسهم الدلالات والصور لتجد نفسك خطوة عن الباب الخارجي،وتجد قدماك مسمرة على أرض من المرمر كأنها تريد العودة من حيث بدأت أملاً في الاستزادة من ثروة الكلمة التي أراد اصحابها توثيق قوتها سلطةرابعة.

قال أترون ذاك القصر الكبير على قمة التل الأخضر وما حوله من مروج خضراء، هو قصر الجنرال روبرت لي قائد قوات الجنوب التي خسرت الحرب الأهلية أمام لينكولن،وخسرت عائلته القصر والأرض (٦٢٤ هكتاراً) عندما أصدر الكونجرس في وقتها قانوناً يجعله وما حولهمقبرة جنود قتلوا في تلك الحرب.هكذا هي الفكرة والمقبرة التي اتسعت ليوارى في ثراها حوالي الأربعمائة ألف شخص أغلبهم قتلى حروب وشخصيات مهمة مثل الرئيس كندي وزوجته جاكلين والمهندس الفرنسي الذي صمم العاصمة بيير، تدخلها من باب نظامية كأنك تدخل معسكراً حديثاً، ممرات وتفتيش وجهاز سكانر، وجنود يتناوبون الحراسة الشرفية، نظمت على شكل قطاعات، مرتبة بأشكل هندسية، وليدفن العسكري فيها عليه أن يقدم طلباً قد يأخذ تسلسلاً في الدور يمتد أكثر من عشر سنين، عدا من يقتل في الحرب. نظيفة شوارعها، مكسية أرصفتها، يسمح لذوي المدفونين أن يدخلوها بسياراتهم وغيرهم يتجولون مشاة، للكبار فيها حصة عربات كهربائية توصلهم الى المكان، قبورهادوارس تُعَلمها صخور من المرمر الأبيض كتب عليها الاسم وتاريخ الوفاة والمعركة التي فيها مات، تنتشر بينها الأشجار لتكّون ظلاً يتفيأ بهالزائرون السائحون، ومن يتأمل عزيزاً ووردة وضعها فوق قبره تعبر عن حب لا يموت. هي ليست موحشة، حالها لا يخيف طفلاً لا يفقه الموت ولا شيخاً تدلت سيقانه في القبر ينتظر الموت. لا فوارق بين أصول الموتى ولا محاصصة في الدفن، مسلم جنب مسيحي يجاورهم يهودي وآخر بدون، عند آخر خطوة قبل الوداع ستضطر النظر الى الوراء، تتذكر موتاك ومقبرة وادي السلام وتجاوز الدفان على قبر عزيز، وفقدان قبر هنا وآخر من ذاك الزمان، وفي آخر المطاف ستتمني أن تطبق الرؤية الشرعية التي تقول:

أينما يموت فاقبروه.    

واشنطن ١٦/٧/٢٠١٧