قال وقد اشتقت دعنا نلتقي، وسط المسافة بيني وبينك نلتقي.

قلتُ لَمْ يمضِ يومان على عودٍ من سفر، وساعات تجاوزت المائة والخمسين على متن طائرات طوالهذا العام وبعض من الشهر.

عاود القول، وما الضير في إضافة أربع أخرى لعداد سيبقى يدور كُلَّ الدهرْ، ثم أني أخترت مكانترويح وسمر،فينيسيا مجموعة جزر وسط البحر،سياحتها خروج عن المألوف،وعود الى الحضارة وتاريخ البشر.

قلت كنت قد شاهدتها أيام الشباب وقضيت فيها بعض من وَطرْ.

رد أبا الوند بهدوئه المعروف، أحفاد يودون العود الى لغة أجدادٍ عرب، وسعي لجمع بعض من مشاعر دفئ عائلي بَدْا يتبعثر. 

قلت ها قد أغلقتَ باب النقاش، وأردفت القولعبارة لابد أن تُذكر:

يبدو أن سلطة التأثير في المشاعر تنتقل من الآباء الى الأحفاد دون أن تندثر.

عندها تلملمتالأشياء على عجالة في خطوة أضحت الأولى موقف باص وصباح خريف لندني ندي بين أوراق أشجار تتدافع ساقطة في موسمها الخريفي، وبينلسعة بردٍ تشبه تلك الآتية من شتاء بغداد يوم تعلو سماؤها شمسالظهر.والثانيةبعدها نصف ساعة مسافةقطعها الباص الأحمر ذو الطابقين الىمحطة قطار فيكتوريا وسط لندن.

محطة أخذت اسمها من فكتوريا الملكة التي حكمت ست وستون عاماً وبعض من شهر.

قديمةهذه المحطة التي تتوسط لندن زاد عمرها عن المائة وخمسوخمسون عاماً،شهدت مغادرة آخر عربة تجرها خيول وحلول أخرى بطلها المحرك البخاري، يسافر منها واليها أكثر من مائة وسبعون مليون مسافر سنوياً.

كبيرة تلتقي عندها خطوط قطارات تحت الأرض وخارجها وتتراصف وسطها تسعة عشر رصيفاً لقطارات تخرج منها متجهة صوب الجنوب والغرب والى مطار گاتويكالمحطة الثالثة. ذلك المطار الذي يعد واحداًمن بين خمسة مطاراتتحيط بعاصمة صنفت لا تنام، موقعه الىالجنوبسبع وأربعون كيلومتراً، يتوسط خضرة ريف وبقايا غابة انسان قديم أقتطع منها الانسان أجزاءً لأغراضه وأجزاءً أخرى لزراعة حبوب وذرة، وبعض منها للسكن. هو الثاني من حيث الحجم والحركة بعد هثرو، والثامن والعشرون من حيث العدد الاجمالي للمسافرين.يتم التنقل بين قسميه الجنوبي والشمالي بعربة قطار كهربائي، لا سائق فيها ولها  ولا قاطع تذاكر، يمر وسط منشآت المطار بهدوء ودقة حاسوب وشخص من بعيد يتحكم. يضعك ومن معك أفواجاً أمامبضع حواسيب تحدد وزن الحقائب، وتدقق الحجز، وتمنح كارت الدخول الى الطائرة. القادمون من الشرق البعيد يقف بعضهم أمامهافي حيرة من أمرهم حيث لا انسان تعودوا سؤاله ولا موظف يريدون استعطافه لتمرير وزن زائد. أقلعت منه الطائرة بعد نصف ساعة تأخير، حُمِدَ الرب تأخيراً أبطلَ تهم في هذا عن طائراتنا ومطاراتنا وقطاراتنا وإنسان منا أبى مغادرة العصر السابق للزراعة.ثوانٍوتسللت صاعدة من بين غيوم متقطعةلم تفارق يوماً أجواء لندن الرطبة، لتستقر بطيرانها الهادئ نسراً يعلو فضاءً رحباً،يرقب أرضاً بعيون حادة. بانت الأرض من شباكها المفتوح خضراء تملأ عيون الناظر مرة، ومسطح ماء أزرق يسر الناظر مرة، وثالثةبعض جبالٍجرداء تجاورها أخرىتغطي أعاليها ثلوج تلوح من بعيد متموجة جميلة، وأراض الى جانبها بألوان يطغي عليها البنفسج،عَلَهّا حقولاً طبيعية لزهرة بنفسج ندية، لونها ملكي يسر النفس، يُشْعرُ بالتفاؤل ورؤية الأشياء ناعمةً وسماعها دون الحاجة الى استخدام الحواس،لا يجد من يجاور الشباك بد من متابعتها منشغلاً بتواتر ألوانها الصافية.وهو كذلك منشغل يسمع صوت قائد الطائرة ينبه الى ضرورة ربط الأحزمة استعداداً للهبوط في مطار ماركو بولو الفينيسي، فيربط الأحزمة ويعاود النظر صوب الشباك ثانية ليظهر ماء البحرقريباً من مسارها، يتجه اليهاسريعاًوكأنهاوسطهزورق سباق، يطفو على تكسرات موج خفيف لا يسمع صوته، وقبل رفع عينيه من روعة الخلق أحس ملامسة إطاراتها الخلفية الثمانية مدرج الهبوط.  

17/10/2017