تعددت وسائل النقل، تغيرت سبلها والأساليب. وحدها الطائرة لم تعد سيدة تغوي مسافري المسافات المتوسطة وغير البعيدة، إذعاود القطار مجداً لم يشأ مغادرته وسط حمى السفر وتقدم التقنيات، رجع الى الأصل سيداً عند البعض لهدوء يهواه، وعند البعض تأملاًللطبيعةوالوقت وقدر من الأمانيراه.

سيدٌ على الأرض يَفتنُ، يَغوي هنا وهناك وفي كل مكان، كذلك بين لندن وباريس عاصمة السياحة وأناقة هذا الزمان، الرحلة اليها في قطار أو السيد القطار الأوربي (يورو ستار) تبدأ من محطة (سانت بانكراس)... محطة وسط لندن، افتتحت عام ١٨٦٨،ضخامتها وتعدد طوابقها والمطاعم فيها والمحال التجارية داخلها وكثر الأرصفة ومئات القطارات الداخلة والخارجة منها الى أوربا وباقي المدن البريطانية، ومكاتب الجوازات والتفتيش وعدد المسافرينتشبهها بهيئة مطار أو أقرب الىمطار منه الى محطة تجثوا فوق أرض لها جذور تمتد شائكة تحت شوارع وعمارات كأنها مدينة تحت الأرض.   

الشاشة الكبيرة وأخرى ثُبتتْ صغيرة على الحيطان وبعض الممرات وزوايا المحال التجارية والحانات تشير الى ان الرصيف الرقم (٩) قاعدة انطلاق القطارالمطلوب.إجراءات تدقيق أمني وأجهزة سونار، ونظر في الجوازات دون ختم توصل الى الرصيف المطلوب، بإزعاجاتأقل من الجاري في المطار.

العربة مثبتة في التذكرة هي السادسة، وكذلك الكرسي، وبداية رحلة غادر فيها القطار بوقته المحدد عند اكتمال الثانية الأخيرة على ساعة الكترونية خطؤها أجزاء من الثانية كل مائة عام، قاصداً باريس العاصمةوالتاريخ ونابليون، تذكره أجيال، وتردده على ألسنتها أجيال.

شرع في السير غير ممتلئاً، سار بطيئاً بداية المشوار، كأنه يتحين فرصة الخروج من المدينةأو التخلص من قطاراتتشاركه السكة ذاتها، وَلَمْا تفرد بهاأعلنت شاشةمثبتة في أعلى السقف بلوغ السرعة ثلاثمائة كيلومتراً في الساعة، ومع هذا بقيَّ هادئاً، لا صوت قد تغير ولا محرك زأر، فمحرك الكهرباء لا يزأر ولا ينطق في الأصل، واثقاًمن قدرته سحب ثمانية عشر عربة،تنساب جميعها متصلة مثل أفعى دون حفيف، أو طائرة تحلق دون مطبات تزعج الركاب، في رحابه لا يهتز قدحشاي على طاولاته أو طبق طعام، ولا يتوقف قارئ يتصفح كتاب يريد إكمال موضوع بدأه قبل الصعود، ولا يعجز شباب يحملقونفي هواتفهم النقالة يتحاورون مع أقران،وابتسامات تجملُ وجوهاًفي الأصل جميلة، ولايثنيسيره الرائق مَنْأخذ شباكه موقعاًللتمتع بالطبيعة عن التمتع بها متى أراد، النظرالى حقول خضراء ومراعي أبقار مرقطة وحمراء، وغابات وخطوط أشجار لمزارعوبيوتمتناثرة على طول الطريق. وسطها وفي لجة التطلع بخلقها يعلن سائقه اقتراب الدخولالىنفق القنال تحت سطح الماء خمس وسبعون متراً، تمتد مسافةأربع وخمسون كيلومتراً وأربعمائة وخمسون متراً، قطعها بعشرين دقيقة، طلبعد انقضائها على الجانب الفرنسي، أرضاً لا يختلف شكلها ولا خضار لونها والأبقار، ومُزارع يحرث أرضه وقطيع أغنام يعود الى حضيرته طوعاً قبل المغيب.  

في الكرسي القريب رجل ستيني، يقلب أوراقاً، يمسك قلم حبر أسود، رفع عينيه فاستغل صاحبي الموقف ودار بينهما حوار:

ـ أتذكرك وجهاً لم يسعفني العقل تحديده.

- سأقصر لك المشوار، أنا وزير في حكومة السيدة ماي، أظهرُ كثيراً في التلفاز.

- أين حمايتك سيادة الوزير وطوابير المتزلفين.

- خلعَ نظارته، ضحك قائلاً لا حمايات لدينا، لا نهوى المدح والتقديس، ولا الخوف من شعبينتخب صحيح ولا الشعب يخافنا بأي حال، وبعد وضع النظارة على الطاولة سأل من أي بلد تكون؟.

- من بلد للوزيرفيه حمايات يُوقفون السير، يُغضبون الجمهور، وجمهور يتزلف الوزير، ووزير يفتش عن جمهور ينتخبه من جديد.

آوووه... أنت من العراق، حضارة عظيمة لا يمكنكم إنقاذهابجمع من الحمايات وتقديسالانسان، قالها وأستأذن ماسكاً شنطة أوراقمؤكداً وصول القطار محطة نورد الباريسية وسعيه اللحاق بموعد لقاءيعود منه الى لندن في المساء.

١٣/١١/٢٠١٧