يعلن السائق بلوغه المحطة الأخيرة من اليابسة، فيترجلالركاب عندهامحطة أعدتْ مشاركة مع الزوارق والقطارات، الأبعد منهاخطوات لا تصلح للسيارات، وقد استبدلته الطبيعة زوارق من كل الأحجام، عادية بعلامة تكسي وأكبر صنفت للنقل العام وأخرى فاخرة لأهل الفنادق ومدعوي الشركات ورابعة وخامسة رست عند أبواب أصحابها من أهل البلاد، تجوب جميعها مدينة انتشرت بيوتها عائمة فوق مائة وثمانية عشر جزيرةكَوّنتها ترسباتعشرات الأنهار تصب عندها منذ الاف السنين. يتوسطهاشارعرئيسي أو قناةعريضة طوله ثلاثة آلاف وثمانمائة متر،على حافاتها تتراصف بيوت وفنادق فخمة ومحال تجارية وكازينوهات ليل، يتفرع منها مائة وثمانية وخمسين قناة مائية، هي في الواقع شوارعهاالفرعية وأزقتها الضيقة، يعبر ضفافها أربعمائة جسر حجري وخشبي وآخر قرب المحطة حديدي حديث.

تقف هنا عند حافة زقاق من ماء امرأة تنظر بعيداً في الماء ويقف هناك رجل يدقق في حائط تكشفت أضلاعه وظهر الطابوق من بين الماء، وبينهما آخر يحمل راية يتبعه سواح كأنهم مريدون في زيارة ولي من أولياء الله أو حجاج للبيت الحرام يخشون التيه، ترى وسطهم وفي طريق السير والحيطان وحجر الأساس وخشب الزان كأن التاريخ موجود في كل مكان، وترى المدينة وبيوتها ومحالها التجارية وكنائسها كما كانت عند أول مشاهدة لها عام ١٩٨٤، لم يتبدل شيء فيها ومنها محمية تراث دولي لا يجوز فيها التبديل، أراد العالم وأهلها ابقائهامرتدية حلتها القديمة وحيطان تَكَشَفَ الطابوق الأحمر عن بعض جوانبها، كأنهم يتعمدون هذا معلماً يساعد في جلب السواح، فأضحت بسببه وتوزيع قنواتها والماء وخدمات السياحةوسهر الليل مدينة هي الأكثر اقبالاً بعد روما العاصمة وتراثها من التاريخ والنُصْبُ والتماثيل.

مشاهد الفرجة كثيرة، ونصف يوم قضى في الطريق، وركوب زورق أمراً لازماً للتجوال في شوارع يتشابه البناء حولها، وكذلك ارتفاع لها لا يتجاوز الخمسة طوابق، متراصفة مع بعضها وقصور قديمة لأغنياء قضوا فيها وطراً، وغادروها لعالم آخر تركوها لمنيأتي بعدهم متحمساً حولهامتاحف وفنادق فخمة، وكأن البشر في موضوعها يتشابهونفالأبناء والأحفاد لا يتعلقون بالبناءالذي يشيده الآباء والأجداد، يستسهلون مغادرته مع حفنة مال أو لخلاف بينهم على بعض من المال.

كل شيء كما هو، كاتدرائية سان ماركو الشهيرة بقيت كما هي فن وعمارة وزخرفة بيزنطية مذهبة كأنها لحن خلود ينساب من بين جدرانها يُعْزَفُمن رهبان على هيئة نقوش وتماثيل منذ أن بنيت عام ٨٢٨، غنية هي فالدخول الى وسطها لقاء مبلغ بسيط وايقاد شمعة ودعاء في باحتها مستجاب لقاء مبلغاً آخراً كذلك بسيط،يدخلها السواح والفنانون وعشاق الدنيا والمغرمون بالتاريخ طوال أيام الاسبوعوإنْيأخذ الدخول من وقتهم أكثر من ساعة في بعض الأحيان ويستلزم الوقوف خلف البعض خط طويلمرصوص، لا يتدافعون ولا يملون أغلبهم يقرؤون والشباب بهواتفهم مشغولون. هي مركز المدينة وساحة لها يحط ويتطاير وسطها الحمام،تحيط بها من الجهات الثلاثة محال تجارية أغلبها هدايا وتراثيات تجاورها مطاعم خفيفةوكافتريات، تتوسدها فرق موسيقية تعزف الحاناً شعبية للسواح وأهل المدينة طوال النهار.

كذلك لم يتغير محل التحف الموجود على الناصية، الا بائعة فيه، شقراء كانت في ذاك العام وأضحت حنطية بعيون زرقاء وشعر أسود هذا العام، هيئتها وجمالها الطبيعي يثير الانتباه، واللغة العربية أثارت من جانبها الانتباه. تركت زبائنها وتقربت مسرورة، سألت عن الأصل وابتسمت بغنجالبنات عند تأكيده من العراق، وعَرَفَتْ عن نفسها فطيمة من أم مغربية أورثتها سمرة البشرة وسواد الشعر وأب إيطالي منحها زرقة العيون، تفتخر بنصفها العربي ولغة لها عربية بلكنة مغربية اكتسبتها وأخوتها وأبيها من الأم. شكت عرب الصحراء وثقل جيوبهم ووهم شراء الأجساد وتشويهم صورة العرب في المكان.شكونا لها هم الحروب وتدخل أولئك العرب في صب الزيت، وحلول المساء فأشارتْ الى مطعم مشهور في الجهة الثانية من القناة،وأكلة معروفةلفواكه البحر ورز الريزوتوالمحلي تجربة تسجلت في قوائم الطعام أنها لا تنفع.

١٧/١٠/٢٠١٧