من يقصد الماضي البعيد بوصلته المعهودة الى الحاضر القائم، يذهب مجبولاً الى مدينة صور.

من يروم العودة الى مدن البحر يوم زهوها وَتسْيّدها، وأقوام لها سكنت الساحل الممتد من أقصى الشمالالى الجنوب، وتمددت لتأخذ من الجبل والوادي موطناً يقترب من البحر ومروج خضراء تسرح فيها النفوس الساعية الى الهدوء،يذهب طوعاً الى مدينة صور.

من يفتش عن الشمس ونسيم البحر العليل في شهر نيسانوبساتين الموز، ونخيل تبعثرت بغير انتظام، يجدها عند ساحل رمله أبيض مصفر يميز مدينة صور.

من يدقق في الأصل، فيسلالات تعاقبت وخلايا تناثرت حتى اختلطت بأخرى من أصلفينيقي وبيزنطي وثالث روماني ورابع عثماني وآخر عربي، عليه الذهاب الى مدينة صور،عندها وفي ربوعها سيجدصورة انسان تشكل من تفاعل خلايا تلك السلالات، وسيجد في عقول أحفادهتفكير انحياز لواحدة منها... تناقض جيني نفسي شكل معضلة لأهل لبنان، ويشكل لأهل العراق معضلة مشابهة.

من يحمل أوراقه سعياً لرصد الحقيقة وتتبعأصول المحاصصةفي كل الأشياء وتفسير معاني الرفض والقبول وأشكال التناحر والتواد بين الطوائف والأديان، لابد أن يأخذ بعضه تجوالاً في أزقة هذه المدينة، شبه الجزيرة التي تقترب من بيروت جنوباً بخمس وثمانين كيلومتراً، جلها طريق ساحلي، لا يكاد يغادره البحر مرغماًالا ويعود اليه راضياً ليكمل المشوار، ينتهي وسطهاليتفاجئحامل تلك الأوراق أن وسط صورمدينة قديمة أو أن العمران فيها قد امتد منذ نشأتهاالأولي قبل الميلاد بثلاثة الاف عام ليشكل صور الحالية، ويتفاجئ كذلك بصمود بعض أركانها وأعمدة رخام شيدت معابدها وطريق بيزنطي مرصوفة أرضه بحجريبدأ من قوس النصر تسلكه العربات وآخر يجاوره للمشاة، تحاذيهماساقية محمولة على جدران من حجر بأقواس تنقل الماء العذب جارياً من عين الحلوة الى خزانات وسط المدينة تكفيالأهل شرباً وسقياً في كل فصول السنة.

تبدأ المدينة القديمة أو بقايا صور الأثرية عند بوابة النصر.تحت قوسها العامر ينتظرمرشدسياحي يعرف كل شبر وصخرة،وبقايا بيت ومعبد، تكلم عن هزةأرضية تسببت في هدم المدينة، أشر على بقايا مساكن لأهلها، وكنيسة أرضها من الرخام الملون ونقوش على جدرانها تؤكد رقي انسانها، يوم كانت سيدة للبحر الأبيض المتوسط وقبلة دين وتجارة وورش صناعة للسفن وأدوات زراعة، وأسوار عالية حققت بعض غاياتها في الحماية.

توقف المرشد عند مدافنها قدم شرحاً عن طبيعة أهلها عن المقبرة الغرفة ببوابات تقل عن النصف متر يغلقها الموت، وزخارف تميز حال أهلها قبل الموت، الأثرياء منهم والوجهاء يزيدون من عددهايضيفون لها نقشاً وعبارات مكتوبة، أما فقراء ذاك الزمان فهم لا يختلفون عن فقراء هذا الزمان، مدافنهم بلا نقوش أو زخرفة.

تحرك المرشد قليلاً، ثم توقف عند صناديق منحوتة من الحجر أسماها نواويس قال هي نوع آخر من المدافن واستمر في المشي حتى الملعب الروماني، توقف وسطه ليؤمن زاوية رؤية الى جميع الاتجاهات، وصفه ملعباًلتسابق عربات تجرها خيول، هو الثاني حجماً في العالم القديمبعد ملعب روما الشهير، يزيد محيطه عن الأربعمائة متر، تحيط به مدرجات شيدت من من الحجر الرملي طوقت الساحة من جميع الجهات، تتسع لثلاثين ألف متفرج كان يهتف الى الفائز بصوت واحد يسمع من أركان المدينة، قسم من المدرجاتبقيَّ شاخصاً عصى الهزة الأرضية وتحدى الانسان عندما امتدت يداه باتجاه الهدم لتشييد بيت أو لإقامة سور.

ترك المرشد هذا الملعب الصرح واتجه الى البحر في طريق مرصوف هو الآخر على حافاته حمامات بخار وخزانات مياه وحلبة مصارعة يؤشر صغرها اقتصار روادها على الخاصة، وقاعات استقبال، تنتهي عند البحر، عند مرفأ المدينة الذي تهدم هو الآخر وبقيت بعض معالمه غاطسة في مياه البحر حتى اليوم، تنتظر من يعيد نصبها لتكون شاهداً على عظمة الانسان من أي سلالة أو دين يكون.

١١/٤/٢٠١٨