ليل واشنطن جميل، فيه نسمة هواء تذكر الماشي بربيع بغداد، غالبية المحال التجارية أقفلت أبوابها، نشطت المطاعم، وقف رواد الباراتعلى الأرصفة، شباب وشيب يتسامرون.في القريب جماعات تمشي وأخرى تتجول في السيارات،وجدت نفسي بينهم أمشي أتلفت يميناً أدقق في الشمال، فجاء في الواجهة البيت الأبيض آخر معلم وضعته في الحساب. يحتل الناصية واسعة على شارع بنسلفانيا العريض، يساعد على المشي وركوب الدراجات والتزحلق والتواد، أقتصر المرور من عنده على المشاة، منعت السيارات بعد الحادي عشر من سبتمبر.

بياض البيت وسقوط الضوء على واجهته وباقي الزوايا والحافات تعطيه زخمارتباط بالمشاعر يبدو مقصوداً، وانعدام الحركة من حوله وحبسها عن الأنظار داخله، تعزز المجهول وقعاً في النفوس. المئات يمرون، يتوقفون يلتقطون الصور، ثم يغادرون، ليأتي من بعدهم آخرون من كل الطوائف والنحل والأقوام، من كثرتهم وتنوعهم تحتار في توزيع النظر بينهم وبين البيت الذي يسوس العالم بلا منازع.

هنا عائلة يشرح الأب فيها كيف حرِقَالجنود البريطانيون البيت في حرب الاستقلال وكيف أعيد أبيضاً من جديد، وهناك سيدة مسنّة جلبت أحفادها لمشاهدة البيت،ورجل يعزف على الة الساكسفونلحناً لزوار البيت، وفي آخر الشارع شابان يتعانقان لا علاقة لهم بما جرى ويجري، كأن الحياة والبيت خلقت لهم وحدهم.

في الميدانالمواجه للبيت الأبيض تمثال الجنرال الفرنسيلافاييت،سمي الميدان على اسمه تكريماً لوقوفه محارباً الى جانب الامريكان بالضد من الانجليز، قريباً منه تمثال آخر لجنرال فرنسي آخر يقر الأمريكان بفضل مساعدته لهم في تلك الحرب هو روشامبو،أسفل تمثالهتمثال امرأة نصف عارية تعبر قيمة العون المقدم في تلك الحرب، الى جوارهم وتحديداً على الرصيف المواجه للبيت الأبيض نصبتْ سيدة من أصول اسبانية كونسيبسيونبيكيتوعام ١٩٨١ خيمة احتجاج لها بالضد من هذا البيت، هي في الواقع ليست خيمة بالمعنى الفعلي للخيمة،بل غطاءبلاستيكي على شكل خيمة ملأت أرضها التي لا تزيد عن المتر والنصف وفضاؤها المحدود بالصور وعلامات الاحتجاج، أقامت فيها، اعترضت منها على سياسات البيت الأبيض النووية، والحروب والعنف ضد الأطفال، وعلى المواقفمن القضية الفلسطينية. القانون الأمريكي يمنع أصحاب هذا البيت ازالتها، يعطي الشرطة الحق في هذا متى ما وجدت الخيمة خالية، فأضحىالمكانبيتها لما يقارب الخمس وثلاثين عاماً،لا تغادره الا عند الذهاب الى الحمام أو قضاء حاجة،واذا ما فعلتهاتستعين بصديقة لها تشغل المكان حتى عودتها ولو لدقائق معدودات. ذات يوم من عام ٢٠١٦ هبت عاصفة ثلجية، حاول الناس اقناعها لمغادرتها، حيث الحرارة انخفضت دون الصفر،لكنها أصرت على البقاء احتجاجاً وهي ترتجف، بعدها ماتت سيدة كانت عظيمة، أكمل مشوار عظمتها أصدقاء لها يتناوبون حتى هذا اليوم.

هذا هو الوقت المتاح وهذه الأماكن والرموز التي أشارموظف الاستعلامات في الفندق الى ضرورة رؤيتها من قبل السائح القادم الى واشنطن، وقال إذا ما وقف الناظر عند الكونجرس سيجد نصب المسلة صار أمامه وعلى جنبيه يقابل البيت الأبيض في موقعه نصب الرئيس جفرسون لتكون المعالم الأربعة على شكل صليب، وأكمل قوله أن المصممين في ذاك الوقت لا يقصدون الصليب، بل مفتاح الحياة، رمز الحياة عند الفراعنة، وعندهم رمز الخلود لديمقراطية أرادوها أبدية.

واشنطن ١٨/٧/٢٠١٧