خذ من مشارب العالم مشرقاً وعد صوب المكاناليه مغربا، تجدبين اليدين معالم أمم وشعوب وتاريخ حضارة، أختزلها الفرنسيون في متحفٍ هو اللوفر، قلعة بنيت في الأصل خوفاً من الغزاة عام ١١٩٦، فأصبحت قصراً يطل على السين لملوك تعاقبوا آخرهم لويس الرابع عشر عام ١٦٧٢، ثم معرضاً للتحف الملكية والمنحوتات، فأكاديمية فنون لمائة عام وفي الثورة الفرنسية قالوا نجعله متحفاً لعرض روائع الأمة. لكنهمتجاوزوا الأمة يوم أصبحت فرنسا امبراطورية تغزو وتأخذ، فجمعت من مصر فرعونيتها ومن العراق آشوريتها ومن اليونان والرومان، وكل ما يقع تحت اليد شراءً واستيلاءً فالأمر سيان.

هرمٌزجاجي منه الدخول الى وسط المتحف آلاف،ومثلهم يخرجفي اليوم آلاف، يدندنون عن روعة المكان وعظمة تاريخ وحسن عروض وترتيب، حتى احتار الداخل من أين له أن يبدأ، كل شبر منه مغرٍ فمن أين يبدأ، سل من قبلك زائراً سيرد إليك الاجابة سؤالاً من أين أبدأ. والمرشدة الجميلة تقول:

لك الخيار سيدي في أنتبدأ، وأن بدأت وركزت وقضيت النهار كله ستحتاج ثلاثة أيام وربما أكثر قليلاً كي تشهد كل المعروض، أكثر من مليون لوحة وقطعة فنية وتمثال وسطها الموناليزا لامعة تجلب وحدها آلاف السواح.

لكن الانسان بطبعه يفتش عن تاريخ له، عن أجدادغادروا وحضارة غابت، فكانت البدايةمن آثار وادي الرافدين،تكدست منها في هذا المتحف الأكبر في العالم (٥٦٦٤) قطعةعُرضت في قاعات متداخلة، بوابة لها صممت على شكل أقواس مثل حضارتها الأصلية، يقف عندها ثوران مجنحان،نحت الواحد من حجركأنه مرمر، ضخامتهما وأناقة النحت تسحبك تقديساً في أن تلتقط صورة، تشعركالانتماء اليها أو انتمائها اليك، ترغب في احتضانها مثل عزيز فرق الدهر بينكما، تتركهما غصباً في وداع جاء لمسة ود كأنها لحبيب.

هناك على الحائط نقش، والى جانبه رقم طينية، وجِرار وبقايا صحون من فخار، وقطعةمن بابل احتفظت بألوان لها كانت تزين جدران، وتحت الزجاج عرضت قلادة ذهبية وحلى، وبعض ألواح.قاعة تؤدي الى قاعة تجاورها، انتصبت على أرضها تماثيل بالحجم الطبيعي لإنسان الوادي بلا رؤوس، تسأل لِمَ قُطعَتْتلك الرؤوس وهل في الحضارة القديمة قطع رؤوس أم أن أهل الحاضر قطعوها غيلة مثلما يفعل البعض امعاناً في قتل الروح.

تمشيويمشي الوقت مثلك ضاغطاً، تشعر باقتراب وقت العصر وقد أكملت تواً حضارة وادٍ طمرته الأقدار، تلتفت قبل الوداع، تلعن أقوام غزت واستكشفت ونهبت، تأسف، تشعر حيفاً في النفس ودعوة صراخ ونوعاً من الاضطهاد، تدمع عيناك عنوةً لآثار حضارة توزعت بين الأمم، وانسان حاضر هاجر مكسوراً بين الأمم، تعودُ بكَ الى الوعي المفقود حقيقة يرددها البعض من انآثارنا لو قدر لها البقاء في أماكنها لفجرها الأوغاد.

في الجوار حضارة اسلامية وأخرى فرعونية ومن أفريقيا حضارة قبائل تقطعت أوصالها وغاب عنها الذكر.

قال قد حكمَ وقت الغداء، أقترحَ مكاناً عائماً، مركب في نهر السين المجاور، هو مطعمٌ ووسيلة تجوال يقطع النهر ذهاباً وإياباً، لثلاث ساعات منها ترى معالم باريس تطل من على جانبي النهر ومنها تأخذ الغداء وجبة كُتِبَ عنها حلال.

نهرٌغلف بالحجر، وأرصفة ومراسٍ لزوارق، تصطف الى جانبهاآلافالمراكب متعددة الأحجام، أشر ربان المركب المطعم على كنيسة نوتر دام، قال هي بالعربية (مريم العذراء) قبة ترتفع ثلاث وثلاثين متراً على أقواس، مُثِلَ فيها فلم أحدب نوتردام لفكتور هيجو، وبعدها قليلاً قال التفتوا يساراًهذه حدائق عائمة في النهر، ومسبح كذلك عائم، وهناكعلى اليمين عمارات أربع،عالية صممت على شكل كتاب انها مكتبة ميتران، تضم ملايين الكتب بكل اللغات.

دارَالمركب دورة كاملة، أقترب من تمثال الحرية، تبين التمثال نسخة مصغرة من تمثال الحرية الضخم الذي أهداه الفرنسيون الى أمريكا وأقاموه في مدخل خليج نيويورك.

بالعودة أبطأ حركته أرسى قريباً من برج إيفل، حيث الوقوف أمامه يمثل وقوفاً أمام صرح هندسي كان في زمانه شامخاً وما زال كذلك شامخ حتى اليوم.

١٥/١١/٢٠١٧