تقترب الطائرة العراقية الى مطار الحريري من جهة البحر، تُعلِن المضيفّةْ الأقدم آخر نداء تأكيدٍ لربط الأحزمة استعداداً للهبوط، يزيد عندها الطيار قدرة محاركها فتزأر بوجهتها صوب المدرج، يرىالجالس الى الشباك يميناً سرعةاقترابهامن الماء،وكأن قوةًجذبٍ هائلة تأخذها باضطراد،وقبل التفكير بالطبيعة والماء والتبعات يظهر المدرجالقائم على لسان أرض يابسة خرجت من البحر، تلامس سطحه الكونكريتي اطاراتها العشرة، فتتعالى دعاوى الحمد من ركاب جلهم لبنانيون جنوبيون جاءوا العراق وغادروه لأغراض الزيارة الدينية.

يتجه أولئك الركاب ومن معهم صوب الجوازات، فيضيفون عدداً لأعداد كانت تقف في الدور ويزيدونه طولاً وزحمة، ومع هذا الطول يظهر في المقدمة مكتب زجاجي الى جوار مكاتب أخرى،يجلس داخله الشرطي حامل الأختام، شاب وسيم يمضغ علكة، لا يعير اهتماما لأولئك الواقفين،لبنانيون كانوا أم غير لبنانيين، لا يلتفت الى همس القادمين وانتقادهم، كأنه لا يعي قوام اقتصاد بلده سياحةأو لا يدركطبيعة عمله جزءً من السياحة.فتح صفحات الجوازببطيء كمن يفتش عن شيءما، سأل عن هوية فيها صورة غير الجواز، سؤال لم يسأله أهل المطارات الأخرى، وحال عدم اقتناعه بعدم حمل مثلها في السفر، أبطئ التدقيق في باقي الصفحات، ليكون الوقت المحسوب وقوفاً في هذا الدور تأخيراً زاد عن الساعة بكثير، أثار استغراب الجميع بينهم سيدة لبنانية أربعينية،قالت وهي ترقب الموقف بقدر من عدم الرضا، ها قد وصلنا الشرق حيث الاجتهاد والخوف وعدم تحمل المسؤولية الوطنية.

لكن لبنان سيدتي لم يحسب أهلها يوماً على طباع الشرق، وصناعة السياحة فيها وانتاج الكتب في مطابعها ليست من طباع الشرق.

ردت بأدبجم ينم عن رقي في ثقافتها العامة، كان ذلك قبل اقحامها في لجة الحرب، لقد غيرتنا الحرب، والى أن نعود كما كنا عليه لبنانيون نتوسط المسافة بين الشرق والغرب، نحتاج عشرات أخرى من السنين، ونحتاج أن يتركنا الأشقاء نعيد حالنا الى ماضٍ كان جميل، نصحت في بعض عبارات لها أن يرى القادم بيروت عن قرب، وإذا ما تمعن في النظر سيرى فيها الكثير جميل، معالم أحياء راقية كأنها أوربية، وسيرى فيها النقيض أحياء أخرى بائسةفقيرة، غناً فاحش وفقر مدقع، تقسيم حرب غابت فيه الطبقة الوسطى لتزيد بشاعته عتمة.

توقفت قليلاً ربما لتعيد توازن الألم في مشاعرها ثم أكملت بعد نظرة غضب الى الشرطي المشغول بتقليب الصفحات قائلة:

أتعلم سيدي أن عددنا نحن المغتربين اللبنانيين في العالم وبسبب الحرب ثلاثة أمثال سكان لبنان الآن، وان لاجئي الحرب السوريين في لبنان يقتربعددهم من نصف عدد سكاننا، واذا ما أضيف الى عددهم هذا ما يقارب نصف مليون فلسطيني يقيم منذ العام ١٩٤٨ فسيزداد العدد عن نصف السكان،تحسرت بعدها ثم أكملت:

المسألة لم تتوقف عند هذا التناقض في أعداد الوافدين لجوءً، بل في الخللبالتركيبة السكانية اللبنانيةالهشة في الأصل، إذ بسببها وناتج التناحر وافرازات الحرب، اكتسبنا بعض طباع في السلوك لم تكن مألوفة لدينا، إذ كثر القفاصون من بيننا والمرتشون وزاد عدد الشحاذون في الطرقات وتكونت طبقة مُستَغِلة وأخرى مُسْتَغَلةَ، ومع هذا فلبنان جميلة وستبقى جميلة.

وقبل أن تتقدم نحو الشرطي،عرفتأن الواقف الى جانبها عراقي، فتأوهت أسفاً وقالت، نحن تخلصنا من فعل الحرب، ونحاول التخلص من بعض شوائبها ولو ببطء، متىتتخلصونأنتم أيها العراقيون الذين سرتم أو سُيّرتم على طريقنا، وأجابت من عندها:

العراق قادر على الخلاص شرط أن يُترك لحاله، يعيد بناء نفسه، وختمت كلامها عند تقدمها خطوة أخيرة، أن الحرب سيدي كارثة بشرية أينما تقع وأي كانت دوافعها. كلام نضج بقيَّماثلاً،وفي أول جولة لهذه العاصمة بيروت في يوم الوصول تبين صحة كلامها، وتبين متعة السير وسط الجمال وتحسس الذوق اللبناني الرفيع والتمتع بموائد المطبخ اللبناني الفريد بصحونه المتعددة من المقبلات.

٨/٤/٢٠١٨