حضر الأسدي، صديقاً يسكن أورلاندو، مدينة تبعد عن تامبامائة ميل، أقترحَ الصحبة اليها، الى مكان واحد فيها، لا يسقطه السائح من الحساب، جال قبل الذهاب اليها في تامبا،قال هيمشهورة بالحرية الفردية وبالنوادي الخاصة، وبحدائقها السياحية الفارهة، هذه واحدة منها،داخلها مدينة ألعاب (ديزني لاند) وتلك أخرى مخصصةً للأطفال (ليگو لاند)، يبنون فيها مدناً من الليگو يُنَمُونَ الابداع في عقولهم النابهة،معروفةبصيد الأسماك وبقرش حجمه كبير يعشعش في خليج تشاركه مع المكسيك، وكذلك بإنتاج النفط من أعماق البحر البعيد، هي في العادةمشتىً يزيد عدد سكانها ٦٠٪ في الشتاء، يقصدها قادمون من مدن وولايات تثلجْ، أكثرهم متقاعدين عسكريين وفرتْ لهم معسكرات صنوفهم أماكن داخلها يسمح لهم وضع بيوتهم المتنقلة (الكرڤانات) والعيش فيها شهور يدخلون اليها ويخرجون منها، يسهرون في نواديها وبمطاعمها يأكلون، مثلهم مثل أجيال من بعدهم مازالت مستمرةً بالخدمة.واقعُ حالٍ يدفع الى نبش الذاكرة واجراء المقارنة غصباً مع متقاعدينا بعد أن غاص من سبقهم في دهاليز الانقلابات بدعاوى الخلاص، فغيروا وحرفوا ومنعوا المتقاعد من كل شيء وان كان تقرباًالى سياج المعسكر شوقاً لشم عرق التدريب. 

مسك الطريق السريع متفائلاً، وسط خضرة لا تشبع العينمن لونها الداكن،ولا تفسد النظر اليها بقعة أرض بور أو سبخ بلا استغلال، بانت حقول واسعةاجتازتهاالسيارة بدقائق، قال هذه حقولفراولة والمدينة معروفة بإنتاجها الوفير، وفائض للتصدير، هناك على جانب الطريق مقبرة طائرات من كل نوع، في الجهة المقابلةجامعة هندسية بنايتها ذكية، تصميمها على شكل قبة، تُفتحُ شبابيكها وَتغلقُ آلياً، يتحكم فيها الضوء بغية المحافظة على الطاقة.  

يزدحم الطريق فجأة، يضحى السير بطيئاً، يقفز الى الذاكرة القريبة ضنٌ بسيطرة نُصبتْ، أو تحذير من عبوة فُخختْ، وقبل عودتها ذاكرة مملوءة بكل أشكال التشكيك، تبان دورية شرطة، تُوقِفُ سيدة تضع الأغلال في كلتا يديها، تخضع سيارتها الىتفتيشكلب يلف حولها فهو الأصدق في التفتيش وشهادته الأكثر مقبولية، قال الأسدي إنها واقعة تتعلق بالمخدرات، فهي كثيرة في هذه البلاد، وستتسببفي تأخيرنا ساعات.

قطعَمدينة أورلاندو متجاوزاً مركزها، وقف خلف سيارات متعاقبة لما يزيد عن ألف متر يريدُأصحابها الدخول عبر بوابةمحروسة.أشر الى علامة في الطريق اليها كتب عليها منابع وِيكْيوَا( WekiwaSprings)طرقاً فتحت داخل غابة لمرور السيارات وأخرى للدراجات ومثلها للمشاة، تغطيها أشجار تنزل أغصانها من الأعلى متشابكة، تسمح لأشعة الشمس أن تتسلل على أرضيتها مثلخيوط الحرير، تغريك أن تمشي عليها،تحسب أنواع أشجارها، تفتش عن طير فيها، دون رغبة في مغادرتها، فتجد نفسك أخيراً أمام نبع حَفَرتْ فيه الطبيعة هوةً يتجمع فيها الماء، أحاطهاساكنيها الأوائل قبل مئات السنين بجدار من حجر جعلوا منه بحيرة اصطناعية ومجرىً يفضي الى النهر،وسط غابة جعلوها محمية طبيعة، سيجوها بإمعان خوفاً على من يتجول فيها ومن يخيم ليلاً للمبيت من دببة تعيش بين أحراشها، ممنوع صيدها. تقف على حافة البحيرة النبع ترى مئات داخل مياه عذبة، تنعكس عليها ضلال أشجار متنوعة، ومثلهم خارجها بملابس السباحة أو بدونها يقيمون جلسات شواء، يأخذك الهوى أن تفعل مثلهم، تنزل الى ماءلها بارد، يدفعك طفلٌ شقي نحو النبع، تذهب اليه طائعاً فالطفل صاحب شأن، قربه شيخاً ينصح الغطس وسط تيار الماء الصاعد، تغطس كذلك طائعاً فالشيخ صاحب قول، تجد قوة ترفعك الى الأعلى، وتجده يبتسم تجربة حاولها قبلك فلم يغطس ربع متر، يأخذك الماء الجاري صوب منفذه طوعاً، الى حاجز يفصله عن النهر، خلفه مشاحيف صغيرة للتجديف ومشاهدة الطبيعة وتماسيح تجثو على جانبيه، لا وقت لخوض تجربة مثل هذه يخوضها آلاف، بقت في النفس حاجة كُبِتَتْ مثل كثير غيرها من حاجات، وضعتها الذاكرة في قسمها البعيد، عساها تعود يوماً لما تبقى من عمر طويل.

قال هناك نبع آخر ينزل فيه هواة الغوص المحترفين، كهوف تحت الماء ممتدةً مئات الأمتار، يستغرقون في رحلتهم ساعات، قلنا الوقت أزف، والمعدة أشرت جوعاً، وفي طريق العودة وخمول الحركة وبعض نعاس تذكرت الحبانية مسطحاً مائياً كانت يوماً ما جميلة والرزازة بحيرةلم تعد نافعة ولا جميلة ودوكان ودربندخان لم يعودا مثلما كانوا مناطق جميلة وكذلك منابع مياه بيخال وحمام العليل. سألت نفسي لِمَ، فوجدت في داخلي لوماً لأهلٍ تركوا البناء وشغلوا أنفسهم بثورات وحروب وهتاف: صدام اسمك هز أمريكا.   

أورلاندو ٢٩/٧/٢٠١٧