في تاريخ العراق الحديث أو في الثلاثين سنة الأخيرة بتنا نسمع طوال الوقت أو بات المسئولين في حكوماتنا يتعمدون إسماعنا أن حيا سكنيا كبيرا قد بني، وجسرا بطابقين قد شيد، ومؤسسة للصناعات العملاقة قد افتتحت، وجيشا عظيما يقاتل، وحزبا فريدا يكافح ودولة قومية تحكم، وحكومة وطنية تدبر، الخ من انجازات يعتقدون أنهم وحدهم كانوا قادرين على تحقيقها، وإنهم الأقوى، والأحسن، والأكبر، والأخلص، والأوفى ونعتقد نحن أن ما يقولونه وهمٌ، وما يدعونه هراء، وهم الأكثر مكرا، وغشا، وخداعا، وكذبا، وبالمحصلة دفعونا بالتدريج إلى الاستخفاف بكل معتقداتهم، وكذلك بمفردات التعظيم والتكبير، وساهموا في وضعنا نفسيا في حالة الاغتراب، وكذلك في إجبارنا على وضعهم في خانة المتسلطين فتصدعت بسببهم والوضع المذكور كثير من المفاهيم القيمية، واختلت بعض من جوانب الصحة النفسية. وتطبعنا في ذات الفترة الزمنية على سماع أو مشاهدة حي يقصف، ويقام حي للمسئولين، وعمارة تتهدم وتشترى أكبر منها خارج البلاد، وأملاك تصادر وتتضاعف أملاك العائلة والأقربون، وشباب يدفنون أحياء، وآخرين يرقصون في بيوت الدعارة حتى الصباح، وتعودنا أن نناقش ببرود ثروة تتبدد ونفط يوزع بالمجان، وجيش ينتحر في معارك غير متكافئة معظم الأحيان، وبالنتيجة ثلمت معايير الوطنية، وتعززت في السلوك معالم اللا مسئولية. وقبلنا أن نسهم في قتل الرفيق الذي نطق بالحق وسط الظلم والاستبداد، ونكتب تقريرا على الجار والصديق، ونشارك في استعراضات لجثث الأطفال، والرقص في حضرة من تسبب في قتل البلاد، ونكرر شدو صوته بالنصر مع كل نكسة يبشر بآخر معركة فيها الفرج القريب، وتعودنا السير بين أكوام الزبالة، والعيش على وفق برمجة الكهرباء، وشرب المياه الملوثة، ومشاهدة الموت، والقتل، والاغتيال والاختطاف، وتحملنا الجوع والعطش والعوز وبرد الشتاء، فكان قبولا وتعويدا تحت الضغط والإكراه، وتكرارا لمشاهدات مفزعة دفعتنا بالتدريج إلى الإحساس بالقلق الدائم والخوف من المجهول.
وتعايشنا بعد ذلك الخوف والتصدع والخلل تناقضا فيه دموع الفرح تنهمر مع إنزال التمثال ومشاعر الحزن تدمي القلوب على دبابة تحمل علم العراق تم حرقها بهدف الوصول إلى التمثال. واستبشرنا بأجنبي جاء لتحرير العراق وأسفنا على رجالنا الذين لم يتمكنوا من إنقاذ البلاد. وشعرنا بالخلاص مع كل صاروخ يهدم ركنا في قصر الديكتاتور وأحسسنا بالأسف على ما ضاع من ثروتنا ومستقبل الأجيال. وشهدنا شهادة زور على قتل الجيش وبيع أسلحته خردة للمنتفعين، وإماتة الأمن وتسليم خبرته إلى الإرهابيين، واغتيال الإعلام ودفع ملاكاته إلى الصف المقابل من المنتقدين. فكان تعايشا وشعورا وشهادة تسببت في انهيار ما تبقى من القيم ومعالم الرضا والقبول وكونت هدما في الذات العراقية، واضطراب نفسي يفوق في مقدار تأثيره على حاضرنا والمستقبل كل الهدم الذي حصل في البنى التحتية المادية، وسيحتاج إلى إعادة ترميمه وقتا ومبالغا تفوق كثيرا مما رصده العالم لإعادة البناء. ومع كل هذه المؤشرات للفوضى والتداعيات النفسية لم يتحرك أحد في هذا الجيل ليسال عن مرحلة ما بعد الفوضى والاضطراب أو ما ستؤول إليه الأمور في هذا الجانب الحيوي، بل وعلى العكس من ذلك يهرولون إلى الأمام خلف أعداد يسطرونها لحرس وطني قبل أن يفكروا بمقدار الولاء في نفوس المتقدمين، ودروع واقية للشرطة وأفراد الحمايات ، قبل أن يحسبوا ما في داخل الشرطة من دافعية للتضحية ومعنويات، وخلف مشروع لإعادة بناية مهدمة، ومختبر سرقت معداته قبل أن يفكروا بمن سيعمل في هذه المختبرات. من ذاك نستنتج إننا نواجه هدم في الحالة النفسية حد التدمير، ومأساة تنذر بكارثة تستحق التوقف عندها والسعي لإعادة بناء إنسانها العراقي من جديد.
د. سعد العبيدي 28/9/2004