قانوني عربي درس القانون أساسا في بلاد الحرية وخبره عمليا في بلاده التي تغص بالمخالفة الصريحة لمبادئ القانون، أعلن في تصريح له عبر الفضائيات العربية أن محاكمة صدام مخالفة للقانون. وفي نفس اللقاء ومن نفس البلد أصر قانوني آخر لا تقل خبرته وفهمه عمن سبقه من الزملاء أن محاكمة صدام مستوفية لمبادئ القانون. وقاض من دولة إسلامية عرف عنه المقدرة في التعامل مع لوائح الاتهام ومواد القانون بين في برنامج تلفزيوني أن محاكمة صدام غير شرعية وخرق لمبادئ القانون، وفي نفس البرنامج استضافت مقدمته الحسناء قاض من دولة أخرى مسلمة عرف عنه النزاهة والاستقامة أكد أن المحاكمة شرعية وتتطابق مع روح القانون. فوضعوا في تصريحاتهم تلك المشاهد في تناقض أو صراع بين رأيين يقع الأول في أقصى اليمين والآخر في مواجهته أقصى الشمال، وكأن هناك في عالم اليوم قانونين، أو أن القضية أساسا مفصولة قضيتين. وإذا ما تجاوزنا العراقيين وآرائهم في محاكمته باعتبار غالبيتهم متضررين من فترة حكمه وكثرة أخطاءه وبالضرورة هم راغبين في إجرائها علنا ليشعروا بالرضا من وقع القصاص ، وباعتبار أن بعضهم القليل من المستفيدين الذين شعروا بالخسارة المادية والمعنوية من سقوطه وبالمنطق هم راغبين في عدم محاكمته وفاء لمكارمه من ناحية وتخلصا من وقع المحاكمة على الذات التي أخطأت أو أسهمت في الخطأ عبر سني الحكم القاسية من ناحية أخرى. إذا ما تجاوزنا كل ذلك وتابعنا أصول واتجاهات من صرح وأفتى يمكن أن نستنتج أن القصور ليس في القانون، وليس في الفهم المفترض لمواده، بل أنه أي القصور في التوجه لتحويل الخطأ المطلوب محاكمته إلى موقف سياسي يراد التعبير عنه وسط المصالح والتقاطعات. وما دام الأمر كذلك يصبح من الواجب التركيز ليس على محاكمة صدام فقط كضرورة حتمية لإطفاء الخطأ في السلوك الإنساني الحاكم، بل والدعوة إلى محاكمة التسييس المتعمد للمحاكمة أو الموقف منها الذي تكون نتيجة لتعامله أي صدام مع بعض العرب الذين أعطاهم أكثر من العراقيين، وبعض المسلمين وغير المسلمين الذين أغدق عليهم من المال وأفقر العراقيين. ومحاكمة من هذا النوع لا ينبغي أن تتم في القضاء وبين الجدران الخرسانية للمحاكم، وإنما في العقول العراقية التي أرهقتها سني الحكم الطويلة السابقة، وأتعبتها السنة الماضية للحكم ما بعد التغيير، وفي مجالها يحتاج هذا العقل أن يستعرض كم الخطأ الهائل الذي أرتكب بحقه وباقي العقول، وكم التغاضي للتنويه عنه من قبل أولئك المدافعين، ويستذكر المنافع التي حصدوها، والأوهام التي عاشوها، ويضع في حسابه أن همومهم لم تكن هي ذات الهموم بالنسبة إلى العراقيين، ومعاناتهم لم تكن كما هي المعاناة في بلد الرافدين، ويسترجع من الذاكرة البعيدة تلك السوابق في تاريخ العراق الحديث لإعدام قادة وحكام لم تسجل عليهم من الأخطاء مثلما سجلت على صدام، ولم يعطوا فرصة للمحاكمة والدفاع عن النفس مثلما أعطيت له، وإنما أعدموا وبعضهم سحلوا ولم يخرج أولئك المدافعون ليقولوا أن الإعدام بلا محاكمة جريمة لا تغتفر، وإن سحل الجثة بشاعة فضيعة. تلك هي المحاكمة العقلية المطلوبة في وقتنا الراهن، والتي ستمهد إلى الاقتناع بأن محاكمة المذكور قضائيا هي مسألة شرعية لأنها تجري في ظل دولة قائمة وحكومة معترف بها وإن كانت مؤقتة، وهي كذلك لأن القصد منها ليس القتل العمدي لشخصه المريض بل معاقبة فعله غير السوي للحيلولة دون حدوثه ثانية، وهي أيضا ضرورة ملحة لأن حدوثها ونجاح تحقيقها سيعزز الحماية المطلوبة للمجتمع من الإرادات الفردية وسيكّون آلية ردع مؤثرة لفعل التجاوز والخطأ الذي يمكن أن يتكرر في مجتمع مثل مجتمعنا الذي يعرف بحقيقة أن في داخل الكثير من أفراده أكثر من ديكتاتور.
د. سعد العبيدي
10/7/2004