لم يعد أحد من المتابعين في العراق لم يسمع عن الفساد بصوره المادية من جوانب الرشوة، والتسابق على العقود، والاستحواذ على الوظائف، والكسب غير المشروع، والإعاقة العمدية للعمل، والتزوير .... الخ، وغير المادية حيث المحاباة، وخيانة الأمانة، وضعف الولاء للوطن، والمحسوبية، والعشائرية، واللامبالاة وغيرها أعمال فساد باتت قاسما مشتركا  لكل حوار بين جليسين في هذا البلد المتعب. ولم يكن أحد من الواعين في العراق لم يدرك أيضا أن الفساد آفة إذا ما انتشرت في مجتمعنا وأي مجتمع آخر ستسهم في التسريع بانهياره شبه المحتوم. ولم يعد أحد من الراشدين كذلك لم يسأل عن دوافع هذا التفشي، وعن أسباب عدم توقف مجرياته بعد زوال نظام كان هو الفساد. لكن الذي لم يقترب منه السائلون الواعون والمتابعون كأسباب حقيقية لهذا التفشي الخطر هو الطبيعة الحقيقية للشخصية العراقية التي دفعها النظام السابق لأن تعيش تحت ضغوط شديدة عززت أو ضخّمت في داخلها رواسب كانت موجودة وبدرجات بسيطة للطائفية، والقبلية، والمداهنة، والذاتية، وتفضيل المصالح الشخصية، وعدم الشعور بالمسئولية، وهذا تعزيز لفعل الخطأ أصاب المفاهيم القيمية بتصدع مهد إلى حدوث الفساد، مضافا إليه تلك الأساليب والخطط التي أتبعها النظام السابق لإخضاع العراق برمته إلى تغيير مقنن أراد من خلاله أن يكون الإنسان العراقي الجديد كاتب تقارير عن الأهل والجيران جيد، وراقص دبكة عربية في حضرة السلطان كفوء، ومدّاح للأعلى في الوظيفة مشهور، وشخص يبدي رأيا بوجهين، ويظهر بشخصيتين، يسهل عليه التبرير. وهي خطط للتغيير نجحت في أن تمسخ الشخصية الوطنية وتترك أثرا سلبيا في السلوك قوامه قبول الخطأ وتبرير قبوله، ذلك الأثر أي الفساد الذي لا يمكن محوه بالتمني أو عن طريق النوايا الطيبة لعدة سنوات مقبلة. والذي تبين النظرة إليه من زاوية الانتشار بين الأفراد والجماعات، وعدم قدرة الدولة لما بعد التغيير للحد من تصاعد شدته أنه اضطراب اجتماعي أصيب به العراقيون إبان حكم البعث وصدام نتيجة للضغوط وخطط التغيير المقنن للسلوك، أنتقل سريعا من زمنهم إلى الزمن الجديد عن طريق العدوى، وبسبب الغياب شبه الكامل لأجهزة الضبط الاجتماعي التي حُلتْ، وكذلك بسبب نشوة التحرر المفاجئ من سلطة الخوف الضاغطة. ويؤكد أيضا أن الإصابة به قد شملت الكثيرين، لكنها إصابة قد تبقى لدى البعض كامنة في النفوس، لا يشعر المصاب بوجودها، وكذلك قد لا يرصدها المحيطون به، إلا بعد أن يكون في دائرة المسئولية يمارس دوره في الأمر والنهي والتمتع بالصلاحيات الواسعة من غير حدود. إنه اضطراب قد تفشى بين الناس فأوقع المجتمع والدولة في محنة يتحمل من سبق المسئولية الأساسية بصدده، ويتحمل من جاء بعده قدرا من المسئولية ذات الصلة بالاستمرار ولو بشكل غير مباشر، لأنه لم يتحرك صحيحا بالضد من الفساد، ولم يحاسب أحدا سار على خطاه، بل وعلى العكس من ذلك رصد العراقيون أشخاصا حُمِلوا المسئولية حديثا قد غالوا في الولوج إلى جوانبه وكأن البعض منهم يسابق غيره سعيا لتعويض فرص لم تستغل من فتات الفساد، أو يتحدى من كان قبله في تسجيل أعلى الأرقام من أعمال التجاوز والفساد. وفي خضم رصدهم وتتبعهم وحيرتهم، تذكروا أنهم وعبر الأزمنة كانوا يقرنوا الوضع السيئ وبالتحديد مستوى الفساد بحال السمكة التي تصل رائحة التعفن فيها إلى الذيل، فتوجه البعض منهم وعند اشتداد الانفعال واليأس في حوار عن جوانبه إلى التعبير عنه بالقول أن التعفن" الجيفة" وصل الذيل. ومع ذلك فإن الصراع بين التعفن أو الفساد من جهة والعفة من جهة أخرى في مجتمع مثل العراق لم يحسم تماما لصالح الأول، والأمل في إيقافه موجود فقط إذا ما تحمل جميع من في السلطة وخارجها المسئولية في شم رائحته، وتيقنوا أن الثمن الذي سيدفع لاستمراره سيفوق كثيرا ما يمكن تحصيله وإن كان رقما يزيد عن المليار.

9/6/2004