درج الناس في هذه البيئة العراقية أن يُحمّلوا غيرهم الخطأ، ولا يتحملوا مسئولية الإصلاح، وأعتاد الأب أن يُلبسَ ثوب الملامة إلى ولده اليافع في كل مواقف العتب والجدال الحاد، ولا يلتفت إلى الخلف ويحمل نفسه مسئولية الخطأ في التربية وتكوين السلوك، وهكذا جرى التعميم في النظرة إلى المسئولية وتحملها من المواقف الخاصة في العائلة والمحلة والمنطقة إلى المجتمع الأكبر والحكومة التي تمثله نفسيا، حتى جرينا على العادة في الانتقاد " ولو بالسر" ذلك الحاكم الجائر وتكبره، وسطوته، وشعوره بالعظمة على سبيل المثال، ولا أحد منا يجرؤ على لوم الذات الجمعية أو يسعى إلى إيقاف تدحرجها يوم أطلقت عليه ألقاب تدنو من تلك التي وصفت بها الرب فأشعرته بالعظمة، ويوم رفعت تماثيله إلى الأثير فعززت في داخله التبجح والكبرياء، ورقصت بشيوخها الأجلاء وعساكرها الأفذاذ، على مسرحه الفضفاض، فجعلته ناظرا إلى من في داخله والخارج نظرة دونية.
واستمر بنا الحال رغم الصدمة التي تعرضنا لها يوم سقط التمثال وأفترض العلم قدرتها على توفير فرصة جيدة للمراجعة وإعادة الوعي إلى تلك الذات المتعبة، لكن العادات التي ترسخت على ما يبدو في داخلنا كانت أقوى من فاعلية الصدمة في إعادة الوعي والتغيير، فعاد المجتمع ثانية إلى نقطة الصفر في اللوم وعدم تحمل المسئولية، وبتنا ننتقد الحكومة في كل خطوة تخطوها قبل أن نراجع ما المطلوب منا في المجالات التي ننتقد فيها. لكننا وفي هذا الحوار لا نريد أن نبرأ الحكومة من أفعال الخطأ، ومعالم التقصير فهي مثل غيرها تخطأ، ومثل غيرها تتعثر وقد تفشل في بعض المجالات، وما نريده هو الوقوف على أبعاد المسئولية الاعتبارية لها وللمجتمع أو بالمعنى الأدق توزيعها بين الطرفين، إذ إن من غير المعقول على سبيل المثال أن تتحمل الحكومة وحدها أخطاء من يقود سيارته عكس الاتجاه الصحيح، ولا من يسرق الكهرباء من أعمدة الشارع العام، ولا تتحمل كذلك وحدها مسئولية شرطي يستغل صفته الأمنية ويدخل عالم العصابات، ومن غير المعقول أن تضع الحكومة حارسا أو مفرزة للحرس عند كل برج من أبراج الكهرباء، أو ترسل مؤتمن من جانبها مع كل وفد يذهب إلى الخارج لأغراض التعاقد، أو تعيد العمل بدس الجواسيس والعملاء في الجوامع والحسينيات، ومن غير المعقول أيضا أن ترسل المدققين إلى آمري الأفواج والألوية في الداخلية والدفاع كل يوم ليتأكدوا من سلامة شراء الأرزاق ودقة نشر الغياب، وقانونية إلقاء القبض والتوقيف، ولا يمكنها أن تراقب أداء المدير والملاحظ وعابر السبيل. والمعقول في عالم اليوم هو أن مسؤولية إدارة الدولة والمجتمع مسألة مشتركة بين الحكومة والأبناء، مشاركة تتحمل في مجالها الحكومة إدارة شؤون الحكم، وتسهيل حياة الناس على أساس القوانين المعتمدة والجهود التي تبذلها في العمل على وفق آليات موجودة، وأخرى ينبغي إيجادها لتأطير السلوك الوظيفي في كل المفاصل الفاعلة للدولة. ويتحمل في مجالها الأبناء مسئولية الاختيار الصحيح للحكومة، والعمل على تقييم أدائها وتقديم العون لها في ضبط السلوك على وفق معايير وقيم اجتماعية مكتسبة، وأخرى يمكن اكتسابها لدفع الجمهور والحكومة بالاتجاه الصحيح. وهي مشاركة لم نجد لها أساسا في العراق الحالي بسبب التصدع الذي أصاب الطرف الثاني أي أبناء المجتمع الذين توزعوا بسببه بين كثرة من المتفرجين غير المشاركين، ومنتقدين غير منصفين، وفاسدين غير عقلانيين، ويائسين غير واعين، ورابحين غير قنوعين، وخاسرين غير مؤمنين، وبين قلة من المصلحين مكتوفي الأيدي، والمناصرين قليلي الحيلة، والمكافحين حديثي العهد، وهذا خلل في المسؤولية سوف يحول دون بناء الدولة الديمقراطية كما هو مطلوب، وسوف لن يحمي أية حكومة مقبلة من اللوم والتجريح وإن انتخبت بالإجماع.
د. سعد العبيدي 12/8/2005