لم تكن ثورتي مصر والعراق في خمسينات القرن الماضي قد حدثتا صدفة أو بعيدا عن التوجهات المرسومة لصناع السياسة الدولية، ولم يكن مجيئ البعثيين عام 1963 في العراق وسوريا في توقيت واحد، على نفس النحو من الصدفة، وكذلك لم تكن عودتهم في العراق ثانية عام 1968 وعودتهم تصحيحيا في سوريا عام 1970 وإنقلاب القذافي عام 1969 بعد هزيمة حزيران محض صدفة، وهكذا تمتد معطيات الأحداث بعيدا عن الصدف الحاصلة لتشمل الثورة الايرانية عام 1979 بنفس الفترة الزمنية التي أستلم فيها صدام حسين السلطة في الحزب والدولة، وغيرها الكثير من أحداث وتغيرات وحروب عربية اسرائيلية وعربية عربية وصراعات بينية في المنطقة وخارجها، وكأنها تحصل في الغالب حزمة واحدة لغايات واحدة لا يدركها أصحاب الشأن المنفذين لغاياتها وإن كانوا ثوارا أو دعاة إصلاح إلا بعد الولوج في دهاليزها لمسافة يصعب الخروج من تأثيراتها بسلام، ويصعب كذلك فهمها من قبل الجمهور الراغب بحصول تغييرات لها بسبب قهر يعيشه وإضطهاد يحسه وأخطاء حكام تجسم أجهزة الاعلام المملوكة لاولئك الصناع شدتها بالوقت الذي تريده مؤثرا في عقول المتلقين المستهدفين. وخير مثال على هذا التصور ما جرى ويجري في المنطقة العربية بالوقت الحاضر أو ما يسمى بالربيع العربي، طبيعته سعي جاد لاسقاط الجمهوريات العربية، فقط تلك التي بنيت على وفق المنطق الثوري بداية من العراق مرورا بتونس ومصر وليبيا وفي الطريق اليمن وسوريا وكأن هناك توجه لتغيير واقع في المنطقة باتجاه آخر يحصل على شكل حزمة واحدة، لغاية يتصورها العرب الجمهوريين، ربيع يؤسس لهم واقع ديمقراطي بعد أن عانوا الديكتاتورية المقيتة لفترات زمنية طويلة، ويريدها صناع السياسة واقع آخر ينسجم ومصالحهم بعيدة المدى. لكن عموم العرب المتأملين بربيع يقدم لهم الديمقراطية سريعا وعلى طبق من فضة مخطئون، لأن تباشيره واضحة من سلوك المنفذين التونسيين الذين فازوا على إثره في الانتخابات عندما أكدوا رغبتهم بخلافة اسلامية سادسة، ومن الليبيين الثوريين الذين فازوا بالمعركة العسكرية عندما صرحوا بسعيهم لتطبيق الشريعة الاسلامية لما يتعلق بتعدد الزوجات وأمور أخرى، ومن الاخوان المسلمين المصريين الذين عادوا الى الشارع من أجل الضغط على المجلس العسكري لوضع قوانين وضوابط تضمن وصولهم الى الحكم وسيطرتهم عليه، ومن أخوان سوريا الذين يدعون علنا لتدخل تركي إسلامي ينسجم مع توجهاتهم للوصول الى الحكم.... تباشير أو مؤشرات إذا ما وضعت مع تصريحات وزيرة الخارجية الامريكية وسياسيين أوربين يبينون فيها إمكانية التعامل مع الاسلاميين، والاسلام السياسي في الواقع عدو لهم حاربوه ومازالو يحاربوه بقسوة في أكثر من مكان، يمكن القول أن هناك رزمة تغيير في المنطقة بدأت بالجمهوريات الأكثر ديكتاتورية تسمح بمجيء الاسلام السياسي إلى الحكم، دون السماح بنجاحه في إدارة أزمات الحكم التي ستنشأ نتيجة لعدم إمتلاكه المرونة الكافية للتعامل مع مفردات العصر وحاجته، مما يفضي إلى شعور بالاضطهاد بين الشعوب يفوق ايام الديكتاتورية، يكّون له أعداء في نفس المكان الذي يحكم فيه، يأخذون على عاتقهم مقاتلته بديلا عن صناع السياسة ومن ثم إماتته في ربيع آخر ستكون فيه الديمقراطية أقرب للتطبيق.

إنها حرب نفسية يديرها أولئك الصناع لتحقق غايات التغيير بالاتجاه المطلوب دون تورطهم بمشاكله المباشرة، يتم فيها العبور عربيا من ديكتاتورية صنعها أفراد إلى أخرى تصنعها المجموعات، لتتهي بعد عدة سنوات بديمقراطية عصرية تتوافق خطواتها مع عالم آخر يحتاج الى إعادة ترتيب علاقاته مع عالم عربي واسلامي جديد.