يتحاور إثنان من الأصدقاء أو أكثر في بعض الأحيان خلال جلوسهما في المكتب الذي يعملان به سوية أو في أحد المقاهي الشعبية التي انتشرت أخيرا في مدن العراق عن مواضيع الانتخابات المقبلة وأهميتها للعراق حاضرا ومستقبلا فيختلفان في تقدير تأثيرها على استقلال العراق وفي جدوى انعقادها في ظروف التوتر وعدم الاستقرار، ومصداقية المشرفين عليها في السماح بالمؤهلين في حكم العراق، ويتدخل ثالث في سير النقاش عندما يحتدم فيكتشف وهو غير المسلم أن الخلاف الحاد بينهما لم يتأت من الموقف الايديولوجي لكل منهما، ولا نتيجة القبول الضمني لترشيح الأول ورفض الثاني، وإن مساحة الاختلاف بالوسع حدا لا يستطع فيها أحد من إقناع الآخر، ولا يمكن أن يسلم في مجالها طرف بالمنطق الذي يطرحه الآخر، ويكتشف من خلال العودة إلى المخزون في الذاكرة البعيدة أنهما اختلفا أو تعمدا الخلاف في حوار تقليدي بسبب الاختلاف في انتمائهما الطائفي، فيسألهما في الثواني التي توقفا فيها عن الكلام هل أن الإسلام قد أبقى موضوع الانتخاب للمجتهدين فاختلفا الفريقين كما هو حالهم في بعض المسائل الشرعية التي تحتاج إلى الاجتهاد؟ وهل أن الطائفة التي ينتمي إليها الأول لا تقر بالانتخاب أسلوبا لإدارة الدولة والمجتع في عصر بات فيه الانتخاب أحد معايير التحضر والرقي على العكس مما تقره الطائفة التي ينتمي إليها الثاني؟ ويستنتج من تلك الأسئلة في تجربته الحالية مع الزملاء وغيرها من التجارب المماثلة عبر سني عمره الخمسين أن لا أثر للدين اسلاما كان أم يهوديا أو مسيحيا في المواضيع الذي يثار حولها الخلاف، وإن الاختلاف بات خاصية عند أهل العراق يحصل تلقائيا في كل المجالات التي تطرح للنقاش، وإن الشعور التعصبي بالانتماء هو الذي يدفع إلى تحديد الموقف من بعض المواضيع المطروحة تأييدا أو معارضة، مدحا أو انتقادا قبل الرجوع إلى المنطق وإلى الثوابت عند الطائفة والمذهب والدين. عندها يحاول التدخل بينهما باعتباره محايدا لينبه أن الخلاف الذي تمتد جذوره في التاريخ العراقي لمئات من السنين وهمي أساسه ولاء تكتلي أراده البعض أن يكون موجودا لدعم موقفه في الحكم أو تعزيز موقفه من معارضة الحكم عندما كان الحاكم ضل الله في ارضه قبل التبشير بالديمقراطية أسلوبا للحد من التمادي في الظلم الذي يفرضه الإنسان على أخيه الانسان، وإن التباين في الاجتهاد بين المذاهب في الأديان تأسس على تفسيرات بعض معالم الشريعة والحياة لتسهيل أداء الفرائض والعبادة، وليس من أجل الاختلاف في كل المجالات بأسلوب قوامه الرغبة في فرض الرأي بالقوة الذي يعيق بطبيعته التطور ويدخل المجتمع في أتون الصراع، لكن الثوان التي أتيحت له في أن يتدخل أثناء إلتقاط الأنفاس لم تكن كافية لمسح أو تقويم الأفكار التي ترسبت خطئا في الذاكرة الجمعية، وإن الاستعداد لقبول التقويم عند الطرفين لم يكن موجودا في الأصل، عندها أعترف مع نفسه بالفشل، وشعر كذلك بالندم على محاولته التدخل في موضوع أريد له في السابق أن يكون محورا للخلاف، ويراد له كذلك في الوقت الحاضر أن يبقى ويكبر أساسا للاختلاف، فترك لهم الساحة قلقا رغم صداقته وإياهم خشية أن تدخل محاولته موضوعا في نقاش جديد يختلف من جانبه وأحدهم على اساس الدين، ومع انسحابه من ساحة الصراع بقيت إنفعالات الطريقة التي ناقش فيها الطرفان موضوع يهم العراق ما زالت تؤلمه، وبقيت الأفكار التي طرحت على هامش النقاش ما زالت تثير تعجبه، وكذلك حسرة في داخله بسبب عدم تفهمهم والكثير من ابناء العراق معنى الاختلاف.
د. سعد العبيدي 5/11/2004