نشأت الجماعات البشرية ونظمت عيشها على وفق علاقة نفسية بين حاكم ومحكوم، قوامها حاجات الثاني وقبوله للأول، وتطورت هذه الجماعات لمستوى تكوين دول ومجتمعات حديثة متقدمة، ومع ذلك بقيت الحاجة والقبول طرف من طرفي معادلة تنظم العلاقة بين الحاكم أو الحكومة من جهة والمحكوم أو الجمهور الذي يقرر وجودها انتخابا في المجتمعات الديمقراطية، ودعما لشرعية البقاء في غير الديمقراطية من جهة أخرى، وعلى أساسها أي المعادلة تسعى الحكومات إلى تأمين حاجات الجمهور الضرورية لإدامة العيش وتحقيق مستوى من الرفاه يفضي إلى قبول استمرار الحكومة في إدارة الدولة والمجتمع، وبعكسه وفي حال اختلال تلك المعادلة في غير صالح الجمهور سيتم إسقاطها منتصف الطريق أو السعي إلى عدم إعادة انتخابها ثانية" في المجتمعات الديمقراطية" ، والاتجاه إلى أخرى يأمل في برامجها الانتخابية القدرة على تجاوز الخلل والعودة إلى حال القبول.
أما في المجتمعات غير الديمقراطية فإن الجمهور غير القادر على تقرير مصير الحكومة عن طريق سحب الثقة، والانتخاب كمحصلة لعدم القبول سيلجأ إلى أساليب أخرى سلبية في الغالب ترتكز على الاحتجاج المبطن، والإعاقة العمدية، وعدم تحمل المسئولية، وضعف الأداء والمعنويات، وربما التخريب، وفي أحيان ليست قليلة تكوين اتجاهات ومشاعر عدوان بالضد من الحكومة كرغبة في التدمير قد يرتد قسم منها إلى الذات الجماهيرية فيعيش المجتمع حالة الفوضى والاضطراب.
وفي العراق هذا المجتمع الذي يتأرجح بين نوايا الديمقراطية، وبقايا الديكتاتورية لم تلتفت الحكومات المتعاقبة منذ التغيير في 9/4/2003 وحتى وقتنا الراهن إلى معنى تلك المعادلة وذلك لأسباب عدة منها ظروف العمل المسلح، واستمرار القتال بالضد من الدولة الذي حال منطقيا دون تحقيق الكثير من مشاريع الحكومة في تأمين الحاجات الضرورية للعيش، مثل الحاجة إلى الأمن والاستقرار، وتحقيق قدر من الرفاه. ومنها أيضا قلة الخبرة في التعامل مع الجمهور إذ أن الحكومة العراقية في السابق لم تنشأ مؤسسات واعتمدت في إدارتها للمجتمع على الفرد الحاكم والحزب القائد، والعشيرة والمنطقة، وعندما رحلت رحل معها غالبية المعنيين فتركوا برحيلهم فراغا لم تستطع الكوادر الجديدة من إملاءه في الفترات القصيرة التي تستلم فيها المسئولية وتسلمها في غضون أشهر لا يمكن خلالها تكوين خبرات للتعامل مع مجتمع مليء بالتعقيد. ومنها كذلك الاعتقاد الخاطئ لدى العديد من السياسيين المعنيين بحكم البلاد في الوقت الحاضر أن مجرد التخلص من صدام حسين، ورفع الحصار والانفتاح على العالم الآخر على سبيل المثال حاجات يكفل تأمينها قدرا من الرضا والقبول في المعادلة النفسية لإدارة الدولة والمجتمع، حتى وجدوا بعد فترة من الزمن أن العراقيين قد أنفتحت نفوسهم أمام حاجات عديدة مطلوب تأمينها لتحقيق القبول مثل الحصول على عمل، وتحقيق العدالة والمساواة، وتأمين الكهرباء والماء، وفرض السيطرة، والحزم، والأمان، وحماية الحدود، وتحديد صيغ التعامل مع الأجنبي، وغيرها العديد من الحاجات التي لا يمكن تأمينها جميعا في القريب العاجل من أجل التحقيق النسبي للقبول، الأمر الذي يلقي على عاتق الحكومة أعباء التوجه الحتمي لإعداد خطط الإقناع بإمكاناتها المحدودة في تأمين الحاجات، وبظروفها التي تحول دون التأمين، وبعكسه فإن الجمهور العراقي الذي تعود عدم القبول كأحد خصائصه النفسية سوف لن يكتف بعدم إعادة الانتخاب، بل وقد يتجه إلى الرفض القسري لأسلوب الديمقراطية التي حالت دون تأمين الحاجات والعيش بسلام.
د. سعد العبيدي 25/6/2005