حلم الديمقراطيون إبان فترة نضالهم بالضد من الديكتاتورية بدولة مسالمة لا معسكرات فيها، ولا عسكر يتدربون، وكتبوا ذلك بأدبياتهم، وقدم بعضهم النصح بهذا الاتجاه، وحلم المعارضون لنظام القمع والاستبداد طيلة فترة معارضتهم بمجتمع مستقر، لا دوائر للأمن فيه، ولا وكلاء يتجسسون، وأصروا في مجالسهم، وصحفهم على أن تكون سمة النظام الجديد بهذا الاتجاه. وحصل التغيير الذي شطب العسكر، ومهنيتهم من على الخارطة السياسية للبلاد ومن التاريخ، وصعد إلى المفاصل العليا بالدولة كثير من الحالمين، فوجدوا في الواقع العملي للإدارة:
إن الأحلام مجرد انعكاسات لرغبات ذاتية مكبوتة كما فسرها فرويد المتهم بيهوديته من قبل غالبية الجهلة، والحكام.
وإن حلّ المؤسسة العسكرية كان خسارة تفوق الربح الذي تمنوه لعراق آمن مستقر.
فبادر معظمهم بتوجيه النقد والاتهام لقوات التحالف التي أخطئت باتخاذها القرار، دون أن يلتفتوا إلى الماضي القريب، وإلى تلك الأحلام، ومفردات النصح والإرشاد، وإلى عمليات الإقصاء التي مارسوها عمدا لرفاق لهم من العسكر حاولوا أن يكونوا في نفس عربات القطار المتجه إلى بغداد.
وأضطرب الوضع الأمني بعد كثر الأخطاء في إدارة الدولة والمجتمع، وغياب قوى العسكر الضابطة، فأضطر المحتل إلى إعادة بناء عسكر جديد، وقوى أمن داخلي غير تلك التي كانت موجودة أيام زمان. وأتيحت الفرصة لبعض الحالمين أن يكونوا من بين البناة والمخططين، وبدءوا خطواتهم بالمقلوب، إذ أنشئوا وحدات مقاتلة قبل المقرات، ومن ثم كونوا مقرات قبل القيادات، ولم يكتفوا بذلك إذ توجه البعض منهم إلى تطبيق مفردات أحلامه على الواقع فألغى كل سياقات العسكر، ورمى بنظريات كلاوزفيتز وليدل هارت وخبرة آلاف الضباط المخلصين في سلة المهملات، وبدءوا عملهم انحيازا بالضد من مهنية العسكر بضوء تلك الأحلام حتى تكونت إدارة مدنية لشؤون العسكر بعض أفرادها لم يسبق له أن خدم جنديا في الجيش، وبعضهم لم تتاح له فرصة التفريق بين الدبابة وناقلة الأشخاص المدرعة، والبعض الآخر لم يدرك أثر الإخلال بضوابط العسكر وقيمهم المهنية على القدرة القتالية المطلوبة للتفوق في معركة الأمن والاستقرار. وبسببهم وقلة الخبرة والتدخل الأجنبي في الموضوع دخل المؤسسة العسكرية والأمنية أشخاص ساقطين، وآخرين مجرمين، وأميين منحوا رتبا، ودرجات بينهم على سبيل المثال شخص كان محكوما بتهم تزوير لخمس وأربعين عاما، أطلق سراحه بعفو من صدام قبل السقوط، وبعده منح رتبة نقيب يرى فيها الآن أنه مغبون كونه من المتضررين فبدأ السعي للترفيع إلى رتبة مقدم، وسيحصل عليها حتما في ضل غياب المعايير. وآخر ملازم في الجيش السابق حكم علية بالسجن، والطرد لسرقته جهاز من وحدته وهو الآن برتبة عقيد، وغيرهم عشرات وربما مئات يشكلون ركنا من أركان المؤسسة العسكرية والأمنية، أو طريقة من طرق بنائها ديمقراطيا وبما تنسجم وأحلام البعض من السياسيين.
ومع ذلك فإن منطق الحاجة إلى بناء دولة سوف لن يسمح باستمرار الخطأ إلى الأبد رغم جسامة الخسارة، وسوف يدرك بسببه الحالمون أن أحلامهم أضغاث أحلام سيفيقون منها حتما وسيجدون أن الحكومات التي لا ترسي قواعد صحيحة لعسكرها الوطني سوف لن تحصل على دعم وتقدير الجمهور، والدولة التي يقود عسكرها أميون ستكون عرضة لأطماع الغير، ولكثر التدخل في شؤونها الداخلية، وسيجدون أيضا أن أمنهم الشخصي سيكون عرضة للتهديد بغياب العسكر المهني رغم كثرة أعداد الحمايات الخاصة، وركوب السيارات المصفحة، عندها سيترحمون على عسكر موسى الكاظم وعلى أولئك الضباط الذين أرسوا قواعده المهنية التي أفسدها السياسيون.
د. سعد العبيدي 1/7/2005