يُقتلُ موظف في الوزارة غيلة فيتقبل أهله العزاء دون أن يتفاعل مسئولي الوزارة مع الحدث، أو أن يفكر واحد منهم في أن السؤال مسألة وإن خففت من شدة الحزن فإنها تنعش معنويات الزملاء الموظفين فيعتزون بعملهم وتقوى روابطهم بالوظيفة. وينقطع متخصص عن عمله في المؤسسة كيفيا دون أن يسأل المعنيين عن أسباب انقطاعه أو أن يتحسب واحد منهم في أن المساءلة وإن تسهم معنويا في الحد من عمليات الانقطاع اللاحقة فإنها ستساعد على وضع حد لرغبات الآخرين في الانقطاع وتدفع إلى الاستمرار بالوظيفة. ويترك جندي في الجيش الجديد وحدته أثناء المواجهة المسلحة دون أن يُشكَلُ مجلس تحقيقي عن الأسباب والظروف التي دفعته إلى الهروب، أو أن يحاول الآمر المباشر العودة إلى الماضي من خبرته السابقة ويستنتج في أن المجلس التحقيقي يضمن حق الجيش ماديا ويردع الآخرين نفسيا. ويتمرد قائد شرطة في المحافظة البعيدة عن بغداد أو حتى القريبة منها على أوامر المراجع العليا فيصدر أمر باستبداله بقائد آخر لا يتمكن من الوصول إلى المقر الجديد بسبب استحواذ المتمرد وزبانيته القريبين من العشيرة والمنطقة دون أن تفكر تلك المراجع بآلية تستبدل فيها ما وضع بعد التغيير من ضوابط لا تتلاءم والواقع العراقي أو أن تفكر بأسلوب ردع يحول دون التكرار لحوادث التمرد وعدم تنفيذ الأوامر. وُينحر كل منتسبي مركز الشرطة في المدينة وضح النهار ليس لأنهم من حزب الحكومة أو من مؤيدي قوات الائتلاف، ولا أحد من الناس القريبين من ذاك المركز أو البعيدين عنه يلفظ كلمة لماذا ! أو أن يسأل نفسه كيف يمكن أن يحل مشكلة بينه وبين الجار العاق إذا ما غابت سلطة المركز؟ ويتسرب إلى الخلف غالبية المنتسبين لفوج من أفواج الحرس الوطني أثناء الهجوم على أحد الأهداف التي تحسب الحكومة أنها مهمة ولا أحد من سلسلة المراجع يدرك أن الإعداد المعنوي للمهاجمين غير موجود أو أن ينبه المعنيين على ضرورة وجوده في ظروف أصبحت فيها المعارك الجارية نفسية قاسمها المشترك ما يتعلق بالمعنويات.... الخ من الأمثلة التي لا حصر لها في عراق اليوم التي تؤشر أن الحكومة في معظم أجهزتها تتعامل مع الفرد والجماعة تعاملا ماديا تفترض فيه أنها وطنية جاءت بعد الديكتاتورية وما دامت كذلك عليه أن ينفذ أوامرها، وإنها قد رفعت من دخله فما عليه إلا أن يستجيب لخططها، وإنها ديمقراطية فلا بد والحالة هذه أن يشارك في مشاريعها، وإنها أزالت عنه ضغوط الشك والملاحقة الأمنية، فما عليه إلا أن يؤيد توجهاتها، وقد ألبست عسكره الجديد بدل من غير الزيتوني، وقبعات غير البيريه المعروفة، وسمحت بإرتداءه نظارة سوداء تيمنا بالغير، فما عليه إلا أن ينفذ أوامرها، وغيرها من افتراضات قد لا نشك بمصداقيتها من الناحية المادية التي لا تكفي وحدها عوامل يمكن تجسيدها واقعا في العقل الجمعي العراقي إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن المشاعر الوطنية قد تصدعت ما قبل التغيير الأمر الذي يحول دون تقدير الكثير من العراقيين لوطنية الحكومة، وإن الدخول التي تم رفعها لا يتحسس وقعها المعنيون بعد شهور من حدوثها في ظل الوجود البين لضغوط أخرى غير ضغوط العيش المترف، وإن الملاحقة والسجن التي كانت موجودة قد نسي أيامها الكثيرون عندما أحسوا أنهم يسيرون في حقل ألغام قابل للتفجر في كل لحظة من الليل والنهار، وإن تغيير الزى العسكري غير كاف لإنتاج الضبط وتحسين الأداء لأنه أشعر العسكر بالتجاوز على تاريخ جيشهم الذي زاد عن الثمانيين سنة من الخبرة والمعرفة.

إن العراق أصبح ساحة معركة، والمعركة صراع إرادات، وأفكار، ومطاولة، وقناعات لا يمكن أن تكسب الحكومة الحالية أو التي ستأتي من بعدها الجولة الحاسمة في مجالها إلا إذا غيرت من تعاملها مع الإنسان العراقي وتوجهت إلى صيغ جديدة بينها ما يتأسس على الجوانب النفسية والمعنويات.

د. سعد العبيدي                                             8/12/2004