أستنفرت قوات، وقنوات فضائية وصحف ومجلات، وسياسيون طامحون، ومرشحون للانتخابات، وجماعات أخرى توجهوا جميعا إلى ملجأ أو سجن الجادرية، في سباق يوحي وكأنه لإنقاذ العراق من أزمته الوحيدة، أو لأكتشاف الحقيقة التي ستحوله في بضع أيام من مجتمع يعمه الجهل، والظلم، والاستعباد إلى آخر يحلم فيه الجميع كحلم أفلاطون في جمهوريته التي يعيش فيها الناس بلا خوف، وينامون  فيها بلا كوابيس وأغتيالات وسط الظلام.  وتجاوزا على ما يتعلق بتفاصيل الدوافع السياسية، لمداهمة هذا الموقع وتفتيشه، وعلى توقيتات التنفيذ التي لم تحدث بالصدفة، وبدلا منها سنحاول التركيز على حقائق يمكن أن تعين العراقي على متابعة الموقف بصورته الأقرب إلى الحقيقة، ومساعدته جهد الإمكان على الخروج من دائرة التاثير النفسي كغاية بنيت عليها العديد من متغيرات هذا الموضوع.

الحقيقة الأولى تتعلق بوسائل الوزارة لتنفيذ القانون وضبط النظام التي دمرت بعد السقوط كمواقع سجون وأماكن حجز وتوقيف ، وسجلات سوابق، وغيرها مستلزمات وأدوات ضبط وردع نفسي، تحتم أن تحشد الوزارة جهدها لإيجاد بدائل للحجز والتوقيف وإن كانت ملاجئ أو بيوت خاصة تفي بحاجتها المتنامية إلى إعادة الضبط وهيبة القانون، لمجتمع يعاني الفوضى والانفلات، وبعكسه سيبقى المجرمون طلقاء يعملون على حشر العراقيين في بيوتهم سجناء التجاوز على القانزن.          

والحقيقة الثانية أن مئات الآلاف من المجرمين والقتلة وأرباب السوابق الذين أطلق سراحهم بالعفو الذي سبق السقوط، وأعداء العراق شكلوا زمرا، وعصابات، وأرتبطوا بمافيات دولية، وأسهموا بمضاعفة أعداد الجريمة، وأبتكروا أنواعا لم تكن مألوفة في العراق لو تركوا على هواهم، وزودوا بثلاث وجبات طعام من الدرجة الأولى في زنازينهم كما يريد البعض، وتدفئة وتبريد كما يروج البعض الآخر فستكون السجون العراقية فنادق من الدرجة الأولى بالمقارنة مع واقع العيش الاعتيادي، وستكون مجالا للاستقطاب، وليس مكانا للردع والعقاب، عندها ستعجز الحكومة وإن كان الوزير فيها مسنودا من الخارج، أو مدعوما من القائمة ......؟ من السيطرة على مجتمع فيه ممارسة الخطأ والتجاوز هواية، والسجن مكانا للترويح.  

والحقيقة الثالثة أن الفعل المسلح بالضد من الدولة وأعمال الإرهاب قد تنامت في السنة الأخيرة بالمقارنة مع السنتين الأولى لأسباب سياسية، وطائفية" داخلية وخارجية" وتنامت معها بقدر مقبول قدرة الدولة على التعامل بشكل يفسح المجال  إلى التحري، وإلقاء القبض، والتحقيق مع المئات من المشتبه بهم، وهذا يتطلب أماكن للحجز والتوقيف لا يمكن أن تستوفي كل الشروط المطلوبة في دولة لم يعد السكن لكثير من سكانها مستوف للشروط الصحية والانسانية.

والحقيقة الأهم منها جميعا أن العراقيين وعبر تعامل الحكم البعثي قد تعودوا الخوف من السلطة كأحد وسائل الردع النفسي، ونظرا لتدمير أجهزتها الضابطة فقد خرجت الإنفعالات السلبية للبعض دونما سيطرة أو رادع، وتوجه أصحابها إلى فعل الخطأ بسعة تفوق ما كان يحدث في السابق، وإذا لم تتحرك الداخلية بشدة وحزم وهامش مقبول من الخطأ كما هو الحال في كل دول العالم لإعادة الردع فإن العقد في مجتمعنا سينفرط، وعندها سيلعن العراقيون الديمقراطية وسيطالبوا بمضاعفة أعداد السجون وكذلك أعداد المحققين وإن كانوا من المشمولين بقانون الاجتثاث.

إنها حقائق أو وقائع وأخرى غيرها لا يراد منها التبرير في ظروف تتطلب العدل والشفافية، وتطبيق قدر من حقوق الإنسان، دون أن نسقط من حسابنا أن تحقيق الأمن، مع ضمان حقوق الإنسان، وفرض العدالة المطلقة في العمل الأمني ثقافة ومعلم من معالم الديمقراطية، يشك بتطبيقها تماما في المجتمعات المتحضرة ويستحيل ذلك في ظروف العراق الحالية وإن أستوزر لداخليتا وزيرا من غير هذا الزمان.

د. سعد العبيدي                                                          2/12/2005