كثر الحديث في أدبيات المعارضة العراقية قبل التغيير عن الديمقراطية حتى تخيل الكثير أن مشكلة العراق أصلا في التعبير اللفظي للديمقراطية، وسقط الديكتاتور عدوها اللدود على يد أكثر الدول إيمانا بتطبيقاتها العملية، فتقدم الجمع المنادي بها ليحتل المفاصل العليا في الدولة سعيا منه " حسبما يعتقد" فرضها على العراقيين منفذا وحيدا لتحقيق أمنهم واستقرارهم، فوجد نفسه بين تشكيلة غير متجانسة للحكم تبدأ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن المنادين بتطبيق الشريعة سبيلا وحيدا للخلاص إلى العلمانيين الذين لا يؤمنون بالدين، ومن العرب اليعاربة الذين يفكرون بأمجاد الأجداد إلى غيرهم من الكرد والتركمان والآشوريين الذين يعتقدون بأولوية العراق، ومن المناضلين الذين ضحوا فعلا من أجل التغيير إلى الوصوليين الذين أقحموا في المعادلة كنوع من التزويق، ومن الشيعة الذين يعتقدون أنهم ظلموا لعشرات من السنين إلى السنة الذين يخشون احتمالات الظلم في العهد الجديد، وهكذا تشكلت صيغة من اللا تجانس في الحكم تمثل فتقا في عباءة الديمقراطية المهلهلة. وبدلا من أن يرتق أولئك اللا متجانسين الفتق توجه كل فرد منهم إلى تقوية جبهته حصة في المقاولات العامة، أو مكانا في المناصب الحكومية وزيرا وإن كان مشكوكا في كفاءته، أو وكيلا للوزارة وإن كان مطعونا في ولاءه أو حتى سفيرا وإن كان محسوبا على غير زمانه، وعندما أمتلئت شواغر الدرجة الأولى توجهوا محمومين إلى القاعدة الممتدة شرطي في قوى الأمن الداخلي، وموظف في جهاز المخابرات، وجندي في الحرس الوطني، وهكذا توزعت التركة والعموم تتفرج على مآلها فكان توزيعا بائسا شكل طعنة في خاصرة الديمقراطية الواهنة. وبدلا من أن يعترفوا بالخطأ ويحترموا حاجة وإنسانية المتبقين من العراقيين هرولوا إلى الأمام حاملين معهم أكداس الخطايا والآثام حتى وصلوا الاستحقاق الثالث للديمقراطية أي المؤتمر الوطني الذي أريد له أن يكون خطوة في الطريق إلى تعلم الديمقراطية إذ وبدلا من أن يتوجهوا دعاة ومتحمسين إلى التطبيق البسيط للانتخاب كأساس لترسيخ دعائمها الأولية تعمد مسلم من بينهم ينادي بتطبيقات الشريعة في الحكم والحياة تزوير الانتخابات التي يشرف عليها في أحد محافظات الجنوب بغية ترجيح كفة جماعته، وأغلق عضو سابق في مجلس الحكم لا يقل عن الأول حماسة في التطبيقات الشرعية كافة الأبواب في محافظة أخرى يشرف عليها ليفتحها بعد منتصف الليل لمنتسبي تنظيمه السياسي وآخرين من تنظيمات كونها تنظيمه بهدف احتكار الأصوات لتكتله، وأعلن مشرف ثالث أن الصراع بين القوى والأحزاب غير منطقي واستنتج أن تمثيلهم لأهل المحافظة غير أصولي فاستعاض عن الانتخاب بالقرعة وسيلة أفضت فقط إلى وصول المحسوبين على حركته، وهدد تكتل سياسي باستخدام السلاح في محافظة رابعة إذا لم يقتصر التمثيل فقط على جماعاته، وأقفل مشرفا أخرا في محافظة خامسة حقائبه وعاد إلى بغداد أملا في أن يحتكم إليها في حسم الخلاف المستعصي فوجد أنها قد فقدت بين ثناياها الاستمارات الأصلية للترشيح، فجلس ومن معه وكذلك الآخرين من خارج مجلسه يتكلم بعضهم بصوت خافت وآخرين بصوت مسموع متفقين جميعا على أن ما يجري تجاوز، وتزوير، وتآمر يميت الديمقراطية، وكذلك جري لتحقيق مكاسب سياسية وهمية في خضم أحداث أنستهم حقيقة كون المكاسب التي حصل عليها من قبلهم الطغاة بنفس الطريقة  لخمس وثلاثين سنة لم تمكنهم من الوقوف بالضد من التغيير لأيام معدودات. 


                                                                          د. سعد العبيدي

                                                                         30/ 7/ 2004