تشير السنوات الأربعة، وأحداثها في العراق أن هناك محنة في داخلها دوامات يعيشها جميع اللاعبين في ساحة الاحتراب الداخلية بمستويات ضرر، وحيرة متباينة، فالعراقيون وسطها يَقتلون، وُيقتلون وأغلبهم في حيرة من أمر هذا القتل، والتدمير، والتخريب، والرغبة في الإيذاء.
أيدوا التغيير بحرارة، واحتجوا على وسيلته العسكرية في التنفيذ بعنف، ولم ينفع الخروج من محنتهم هذا التأييد، ولا ذاك الاحتجاج. أنتخبوا من يريدون انتخابه حسب خطوات العملية السياسية المرسومة، وتبين لهم بعد الحصاد أن الانتخاب لم يخرجهم من دوامة الفرقة، والتوتر، والإختلاف. أيدوا، وسايروا، وصفقوا على طريق الديمقراطية، والعيش الآمن الرغيد، وفي وسطه اكتشفوا أنهم في الطريق الخطأ وسط أعتا الدوامات.
والحكومة العراقية بمؤسساتها، وأجهزتها، ودوائرها، وقواتها المسلحة وسط دوامات تسعى، وتتعامل، وتتأمل، وتجد عند التنفيذ أن الأداء يقل عن ما هو مطلوب، وإن الولاء الكفيل بالتضحية من أجل الوطن على الأغلب غير موجود، والإخلاص في العمل لا يؤمن الغاية التي تريد. تضع البرامج، وتحاول، وتنسق، وتتوعد ويتبين لها في خطوات الشروع الأولى أن حركتها مُقَيدة من مجلس وزراء يعمل بعض أعضاءه لأنفسهم قبل العراق، ولأحزابهم بدلا من حكومة البلاد، ولطوائفهم دون الوطن الكبير، ومن برلمان أنقسم على نفسه، وأختلف مع بعضه حتى ضعف، ولم يعد قادرا على إعانتها لتصريف شئون البلاد، ومن قوات إحتلال تطوقها من كل مكان قادرة على الوصول إلى النقطة التي تريد، والقيام بالفعل الذي ترغب، وإعاقة ما لا تريد أن يكون، ومن محيط حولها بعض الموظفين يفتي بما يعتقده مفيد، ويشوه من فتوى غيره التي يعتقدها لا تصلح، وينصح بما يحس أنه ينفع ذاتيا، ويكتب التقارير لإزاحة الغير القريب، ويداهن في موقف الحاجة، وينافق عندما يقتضي الأمر. تعد الخطط الأمنية الواحدة تلي الأخرى في حرص للخروج من المحنة شديد فتجد عند التنفيذ أن الإختراق الأمني وصل بعض مقراتها، وتسريب المعلومات يبدأ من بعض أعضائها، ودوامة الحيادية في التنفيذ، وضعف الأداء، وقلة الضبط، والإعياء، وهبوط المعنويات تحكم سلوك منتسبيها.
والقوى السياسية كذلك علقوا في أكثر من دوامة، يرغبون المشاركة، واستثمار الفرص، ويتنصلون عن تحمل الخسارة المتأتية من التعثر، والإسهام بالفشل. نادوا أيام معارضتهم نظام صدام وكفاحهم السياسي الطويل بالديمقراطية، والعدالة، والمساواة سبيلا لمجتمع جديد، فكونوا بكثر أخطائهم، وقلة خبرتهم مجتمعات، متناثرة تحلم بالديكتاتورية أساسا للتوحيد. تحركوا في كل إتجاه، وكسبوا من كل ممكن ومتاح، وحذروا من التقرب، والمنافسة على ما متحقق من مكاسب، وهددوا الغير الذي يتجاوز خطوطهم الحمراء، وأزاحوا من طريقهم كل من يعتقدونه قادر على التقرب، وجرفوا الساحة من حولهم لتنظيفها إلا من المؤيدين والأتباع، وتبين بعد أربعة سنوات من هذا الكفاح أنهم وسط جمهور رجراج لا تنفع كل تلك الأساليب في كسب تأييده، وضمان صوته، والسيطرة على انفعالاته. أجتهدوا، فانشقوا، وتشظوا، وأتصلوا، وتواصلوا، وأمتدوا فدخلوا، وأُدخلوا ساحة إحتراب هم فيها أضعف المشاركين. أستنكروا بعض الأفعال في العلن، وعارضوا بعض توجهات الإحتلال كذلك في العلن، فوجدوا الإستنكار وهم، والمعارضة خدعة، والتأييد بدعة لأن محنتهم محنة مكان أسمه الشرق الأوسط الجديد، وزمان فيه القطب الدولي الأمريكي هو الوحيد، وكل من يتحرك في داخل دواماته لا يعي مكانه، وزمانه الأكيد.
والأمريكان يبدو في الوقت الحاضر أنهم أيضا في دوامات المحنة بعد أن عجزوا عن إقناع عراقيين يعيشون زمان غير زمانهم بديمقراطيتهم الموعودة وهم لا يعرفون طبيعتهم، وسبل التعامل معهم فوعدوا، وناوروا، فعجزوا أن يحققوا الأمان أبسط مقومات الديمقراطية. دعموا البعض سياسيا، وسـاعدوا البعض ماديا، وأسهموا بخصخصة الإقتصاد، وأجتثوا البعث، وأجهزة الضبط الاجتماعي، ورصدوا كل حركة، وتنصتوا، فاكتشفوا خلال الأربعة سنوات زيادة في مشاعر العدوان بالضد منهم، وحلفائهم، وفي أعمال الإرهاب بالضد منهم ومن سايرهم أدخلتهم قسرا في أكثر من دوامة. منوا العالم وشعبهم بمجتمع جديد خال من القهر، والإرهاب، وأمريكي بعيد تماما عن العنف، والإرهاب، فوجدوا بعد هذه السنين أن منابع الإرهاب لم تنضب بعد رغم كل الجهود، وإن مجتمعهم الذي أيدهم قبل أربع سنوات بدء يقف بالضد من مشاريعهم في الإستمرار بتقديم الوعود. دخلوا العراق محررين، فتصرفوا مثل غيرهم فاتحين، أزاحوا بقوتهم الدكتاتور، والحزب الواحد، فخلقوا بجهلهم أكثر من ديكتاتور، وعشرات الأحزاب، والجماعات التي تتقاتل من أجل أن تبقى في النفوذ، والاستحواذ حزب واحد. أيدوا العملية السياسية، وتخبطوا في جوانبها فأسهموا في إجهاض معانيها الإنسانية. دعموا الحكومات العراقية المتعاقبة علنا، وأسهموا في إفشال بعضها سرا فحيروا حلفائهم، واحتاروا مع أنفسهم في الطريق الذي يختارون لضمان تحقيق الأهداف الميدانية. أنقسموا في ساحة المحنة بين راغب في الإنسحاب لا يعي مخاطره، وساع إلى البقاء البعيد لا يدرك أبعاده. بين باق على العهد يصر على عزل أقوى اللاعبين في ساحة الاحتراب الملتهبة، وبين من يجد في إشراكهم جميعا منفعةً، ومخرجا مشرفا للتخلص من دوامات المحنة.
ودول الجوار هي كذلك في دوامات محنة يتحسسون فيها الإقتراب من ساحتها مشكلة تضعهم في دائرة الخطر المحتوم، والابتعاد عن محيطها معضلة فيها الخطر شبه محتوم. دعمت، وساعدت، فأدركت أنها تسهم في إشعال فتنة تقترب من ساحتها القلقة، فزادت من دعمها، وتدخلها في هرولة إلى الأمام أدخلتها جميعا في دوامات المحنة. استنكرت، وشجبت وجود الأمريكان في العراق قريبا من حدودها فسارعت إلى توريطهم في مستنقع الاحتراب الداخلي، وأكتشفت قبل النهاية أنها طرف في هذا الاحتراب قد يمتد إلى ساحتها غاية خُططَ لها أصلا دون أن تعي أبعادها.
إن ما يجري بالعراق في الواقع محنة، وجميع الأطراف المشاركين فيها أدخلوا في دوامات تعصف بهم لمستوى من الشدة قد يخرج بعضهم منها بهيئة غير التي دخلوا بها عندها سكيشف الباقون على قيد الحياة أن الأهداف الإستراتيجية للحرب اقتضت أن يدخلوا جميعا دوامات المحنة.
د. سعد العبيدي 8/4/2007