من مبادئ الإدارة الجيدة أن يكون هناك توازن بين كفتي المسئولية والسلطة، أي أن يكون هناك تحمل لمسئولية المنصب الذي يدفع من يشغله إلى اتخاذ القرارات المناسبة وفقا للمهام المثبتة، وأن يحصل في ذات الوقت من يشغل المنصب على الصلاحيات الملائمة لتنفيذ تلك القرارات، وهذا توازن إذا ما أختل لصالح أحد الكفتين يؤدي إلى وجود خلل أو اضطراب في النتائج "المخرجات" كما كان جاريا في المرحلة الزمنية التي حكم بها صدام العراق إذ يتعمد حسب اجتهاده الشخصي في إسناد منصب مهم إلى شخصية مهزوزة أو قلقة لا يمكنها "تبعا لخصائصها النفسية السلبية" من تحمل أعباء المسئولية الملقاة على عاتقها فتتجه كنوع من تعويض الضعف إلى أخذ موافقة الأعلى في هرم الرئاسة بصغائر الأمور وكبائرها، وهكذا يكون الموظف المذكور تابعا إلى هرم الرئيس، ويكون الرئيس من خلال تبعيته الأقوى والأكفأ والأعلم فيسد حاجته إلى العظمة. وهذا خلل في التوازن بين الكفتين المذكورتين لم يكن يتوقف عند توجه صدام إلى تعيين بعض الشخصيات الضعيفة، بل ويتعمد في بعض الأحيان أن يمنح بعض خاصته من المسئولين القريبين سلطة قوية أي صلاحيات مطلقة تفوق كثيرا حاجة المنصب إلى ذلك القدر من الصلاحيات، فيحصل بنتيجتها على تخفيف من عبأ الخطأ من على كاهله ويضيف في نفس الوقت أشكال من القوة لتعزيز عظمته. وبالمحصلة حدث خلل في إدارة الدولة والمجتمع بين التوازن المطلوب لكفتي المسئولية والسلطة أضر كثرا بالعراق في العشر سنوات الأخيرة على وجه التحديد، وترتب عنه انهيار سريع لأعمدة المجتمع خلال أزمة حرب التغيير عندما وجد الضعفاء في اشتدادها أنهم غير قادرين على اتخاذ القرار المناسب، وغير قادرين أيضا على إيجاد المسئول الأعلى ليتسلموا منه التعليمات، فآثروا التنحي تماما عن المسؤولية عن طريق الغياب،  فسمحوا بتصرفهم هذا تحت ضغط الخوف الشديد من خطر الحرب إلى تعميم سلوك الغياب أي ترك الساحة لغير المسئولين، فتسببوا في إثارة الفوضى والاضطراب وتسريع عملية الانهيار.

إن المشكلة في العراق تتمثل بالفترة الزمنية الطويلة التي أدار بها صدام الدولة والمجتمع وبالحدود التي تركت آثارا كبيرة أو تعويدا على الخلل في عدم تحمل المسئولية أو المغالاة في فرضها لم تعيه الحكومات المعنية بعد عملية التغيير، إذ وبدلا من أن تتجه  إلى معالجة هذا الخلل باختيار من يتحمل المسئولية في المنصب المحدد وتمنحه الصلاحيات المناسبة توجهت إلى توزيع الحصص لإشغال مفاصل الإدارة المتعددة توزيعا مخلا دفع بالبعض ممن لا يعون طبيعة المسئولية أو غير المؤهلين لتحملها إلى المراكز المهمة، ومع هذا التوزيع غير الملائم لم تتجه أي الحكومة إلى التقليل من اثره المخل وتقوم بتوصيف مفاصل الإدارة في أجهزتها أو تحدد الصلاحيات الممنوحة، وبدلا عنه أبقت التحرك مفتوحا لشخصيات تحمل الكثير من خصائص الماضي السلبية أو لأخرى تبغض كثيرا معالم الماضي فتحاول التعويض.... تجتهد في دوائر للإدارة غير واضحة المعالم فكان اجتهادها بوجه العموم خللا في التوازن بين المسئولية والسلطة زاد من حالة الفوضى والاضطراب وأسهم ولو بشكل غير مباشر بتقويض ما تبقى من أعمدة البنى التحتية للعراق. ومع ذلك فإن لأمر لم ينته بعد، ولم يصل المجتمع إلى نقطة اللا عودة حتى الوقت الحاضر والفرصة ما زالت متاحة أمام الحكومة المقبلة "المنتخبة" أن تأخذ باعتبارها التوازن المطلوب بين المسئولية والسلطة خطوة قد تسهم في ترميم بعض معالم الانهيار قبل فوات الأوان.                   

د. سعد العبيدي                                                        22/2/2005