أم تنتظر طفلها في عودته سالما من مدرسته هذه الأيام، قلقة حد التوتر، لم تسأل عن أداءه في الامتحان، لأن وصوله إلى البيت أي بقاءه على قيد الحياة أكثر أهمية من امتحان لم يعد يعني شيئا لها ولكثير من العراقيين. وأب يتحايل على مسئوله المباشر في الدائرة الحكومية التي يعمل فيها بهدف الخروج قبل ساعة من انتهاء الدوام، يناور حد الكذب، لم يحسب للوظيفة، ولا للترقية، أو حتى العلاوة حساب، لأن ضمان إيصال أبنته الشابة من المدرسة إلى البيت والعكس يفوق كثيرا في أهميته وقيمته كل الرواتب والترقيات والعلاوات التي لا تصل في حدودها العليا ربع ما يطلبه خاطف يترصدها ليل نهار. وحارس ائتمنته الدولة والمجتمع على سلامة أبنائها يغض الطرف عن ما يجري خارج سياج المدرسة من محاولات للإيقاع بالطلاب أو اختطافهم عنوة، لأنه قد أكبر في ذاكرته غير المستقرة إمكانية الاقتصاص منه يوم لا يجد فيه معين. وحوارات ساخنة في عائلة عريقة عن هموم السلامة والغد المجهول قطعها ليلة 16ـ17/5 رنين هاتف طلبت فيه طالبة من الصف الرابع في ثانوية الحريري للبنات بحي المغرب من زميلتها تهيئة ورقة وقلم على نحو سريع لتكتب أسئلة الفيزياء التي ستأتي في امتحان الغد. سكت الجميع وغيروا من طبيعة الحوار ليكون محوره صحة الأسئلة التي جاءت عبر الهاتف من عدمها، لكن الابنة الشجاعة قطعت عليهم طريق الشك لتتفرغ إلى حفظ أجوبتها قائلة إن الطالبة التي اتصلت بها تكون قريبة لمدرسة الفيزياء الأمر الذي يجعل صحتها مؤكدة. حمد الجميع الله على صداقة أبنتهم لتلك الطالبة النبيهة، وحمدوه ثانية على مساعدة المدرسة لطالباتها، عندها ذهب الجميع إلى النوم يغمرهم شعور بالانتصار ويحدوهم أمل في غد ليس ببعيد.

وجاء الغد وذهب الأب إلى المدرسة قبل موعده التقليدي مدفوعا بالرغبة إلى معرفة الدقة في تسريب الأسئلة، وقبل أن يسأل فهمت الابنة مجيئه المبكر فبادرته قائلة الحمد لله إن الأسئلة مضبوطة تماما، لكنها لم تكتفِ بالحمد لهذا القدر إذ قالت أن الأمر سيتكرر في مادة التاريخ الذي سيحل موعد امتحانها يوم 19/5 .

إن محنة الأب وكثير منا في النظرة المزدوجة إلى مسألة النفع الذاتي التي استشرت بيننا وباء عارم فدفعت ذلك المسكين إلى النظر لموضوع تسريب الأسئلة من زاوية الفائدة الخاصة لأبنته بفارق قليل من الدرجات أو حتى بنجاح وهمي متناسيا أن النجاح بهذه الطريقة غير مضمون حتى نهاية المطاف، وغير مدرك لأهمية المذاكرة والامتحان في إكساب الطالب قدرا من المعرفة يعينه على أن يكون نافعا لذاته والأهل والبلاد.

وإن محنة المدرسات المعنيات بالفيزياء والتاريخ وكثير منا في التعامل العشائري مع المواضيع من حولنا والأحداث الذي أنتشر في مجتمعنا داء عام يدفعنا إلى تفضيل القريب إلينا خارج الاستحقاق وإلى التجاوز على القيم والقوانين والأصول، متناسين أن التجاوز في موضوع ما قد يكسبنا عادة التجاوز التي لا تنتهي إلا بفرض العقاب، وغير مدركين أن تسريب الأسئلة يعني وبالإضافة إلى خيانة الأمانة الوظيفية التي يحاسب عليها القانون التقليل من كم المعلومات اللازمة لتكوين شخصية الطالب، وتنمية قدراته في أن يكون نافعا، وتعني أيضا السبيل إلى توقف الطلبة منتصف الطريق، والوسيلة الكفيلة بإنتاج الحارس الذي يغض الطرف وعضو العصابة الذي يهدد بالاختطاف، ومع ذلك فإن آثار المحنة التي لم يدركنها المدرسات المذكورات وغيرهن أنهن قد يدفعن حياتهن أو أقربائهن ثمنا لتجاوز من أسهم سوء التعليم بتحويله قاطع طريق.

                  

24/5/2004