نودي بالديمقراطية في مجتمع العراق الذي لم يشم منذ آلاف السنين رائحة الديمقراطية، وفي خضم المناداة توجه الناضجون إلى صناديق الاقتراع معتقدين أنها الفيصل في إيصال المناسب إلى الحكم، وإنها السبيل الأمثل إلى لإثبات قدرة الأغلبية على الحكم ديمقراطيا، والوسيلة الأنجع إلى مساهمة الأقليات في الحكم أصوليا، والفرصة الأوفر إلى تغيير من لا يثبت ملائمته للحكم من بين الأغلبية، والأقلية، وفي نفس المناسبة هرول البعض من السياسيين المغلفين بالديمقراطية إلى تجميع الأصوات، والتحرك في دهاليز التآمر، والرشا معتقدين أن الفرصة في الوصول إلى الحكم أو المساهمة فيه لا تعوض، وإن التحول إلى الديمقراطية سوف يلهي الشعب عن التفتيش في الدفاتر القديمة، ومعايير السلوك الحديثة فيكونون بالمقدمة في عربة الديمقراطية، وفي إطارها أي المناسبة توقف البعض الآخر عن السير، معتقدا أن التوقف سيحرف المسيرة، ويعيد البلاد إلى سابق العهد بؤرة لحكم القرية، والمنطقة، والعشيرة بعيدا عن التصويت، وصناديق الاقتراع التي تحكم الطريق إلى الديمقراطية. لكن موقف الهرولة في الطريق الوعر، والوقوف الذي لم يستمر، ومحاولات التدخل الخارجي التي لم تتحدد كونت جميعا حالة صراع في داخل المجتمع العراقي، لم ير الطرف الواحد أو المجموعة الواحدة فيه إلا السلب من الطرف الآخر، والسلب هنا تكوين فكري بالضد لم تتضح معالمه من خلال فعل الخطأ إثناء الممارسة، والتطبيق كما هو حال الشعوب، والأمم الديمقراطية، بل هو عند البعض من الساسة العراقيين الجدد افتراض يتأسس على مطالب ذاتية  طائفية كانت أو مناطقية، أو شخصية يعتقد أن الطرف الآخر سوف لن يحققها في ممارسته للحكم أو في مشاريعه الانتخابية للوصول إلى الحكم، وبدلا من الانتظار، واستخدام آليات الديمقراطية في التصحيح، والوصول إلى الغاية، يستبق البعض أو يحاول القفز من على الآليات فيتحفظ على الأسماء المرشحة للمناصب العليا تارة ويوجه الاتهام تارة أخرى معتقدا أنه سيحقق نصرا ميدانيا على خصم يفترضه موجود في ساحة قتال الديمقراطية، دون أن يعي أنه قد وضع المقابل في زاوية الحرج النفسي ودفعه إلى أن يستنتج حتما أن هذا التحفظ تآمر لا يمكن قبوله، والتفاف على نتائج الانتخاب لا يمكن السكوت عليه، ومحاولة تقويض الديمقراطية لا يمكن التعامل معه، وسعي لتدخل المجموعة الأصغر في شؤون الكتلة الأكبر لا يمكن تفهمه، ومحاولة تسويف الاستحقاق لا يمكن استيعابه.

إنه تحفظ تم دون أن يدرك فيه المتحفظ أنه قد اوجد نهج تفكير لا يمكن أن تحتكره جماعة دون أخرى، وإنه سياق عمل إذا ما تم الأخذ به سيسحب جميع الكتل، والجماعات إلى اعتماده أسلوب للرد، وخيار للتعامل في ساحة الصراع التي تتسع جوانبها إلى المستوى الذي يصعب السيطرة فيه على النوايا والأفعال، وهذا ما حصل، ويحصل فعلا في عراق اليوم لمرحلة ما بعد الانتخابات الأخيرة، عندما جرى التحفظ على منصب أوقع العراق في أزمة التحفظ على منصب آخر للطرف المتحفظ، وهكذا سيجر المتحفظون البلاد إلى مواقف للإثارة يفسرها البعض من العراقيين المتعبين على أنها تحديات خاصة، وتوجهات طائفية، قد تدفعهم في مواقف الانفعال إلى التمترس حول هذا المتحفظ أو ذاك فتتسع الهوة ويزداد الاحتقان الطائفي، ويشتد العداء عندها سيدفع المتحفظون قبل غيرهم ثمنا لا يتوقف عند عدم الوصول إلى الحكم والمنصب، بل وسيمتد إلى سفك المزيد من الدماء في محيطهم، وسيسجل التاريخ أنهم من أدخل العراق في دوامة التحفظ والتحفظ المضاد، وإنهم من كون حالة التخبط في البلاد، وهم من دفع إلى التقاتل، والاحتراب.

د. سعد العبيدي      19/4/2006