ظهرت القاعدة بشعة من جديد، تحمل بيدها اليمنى معولا لهدم بغداد عاصمة الرشيد، وباليسرى شعارات وأوهام لإشعال الفتنة وقتل المزيد، لتضيف على بؤسنا بؤسا، وعلى قلقنا قلقا من النوع الفريد، لابد من مناقشته ليس من زوايا الادانة والتنديد، بل من نبش الماضي المجيد، والتفتيش بين ثنايا الحاضر العتيد، بشكل محايد يمكن أن يكون مفيدا لأجيالٍ شباب، لا يجب أن تسلك مثل أجيالنا سلوكا منحرفا، وأن لاتكون مثل أجيالنا شاهد زور على الانحراف، وأن لا تبقى مثلها متفرجةً على ما يجري بروح الانتهازية الرخيصة، والوصولية الغائية التي تُحَوّل الهزيمة نصرا وتشدوها إلحانا راقصة لتعزيز فعل الانحراف. ومن إعتقاد في أن الخوض في أحداث هذا الواقع بإسلوب التشريح النفسي، قد يكون مفيدا لقراء عرب عسى أن لا يتورطوا بمثل ما تورطنا به أدوات مشاركة رخيصة في قتل ذواتنا والتهديم، ولبقايا قراء عراقيين تناقص عددهم ومتابعين ضعفت دافعيتهم ووطنيين يسبحون ضد تيارات زادت شدتها بمواجهتهم، عسى أن يصحوا من غفوتهم، ويقودوا بأنفسهم سفينة الخلاص من وحل الانحراف، وغيرهم كثر من الواقفين على التل، يتفرجون على ألسنة لهب مشتعلة في بغداد، كأنها فرع من جهنم، تلك النار التي تتأسس ديمومة لهيبها على طلب المزيد، عسى أن ينزلوا إلى السفح ويقفوا مع من تبقى من الواقفين إسهاما وإياهم في إطفاء السعير، وإعادة بناء حضارتهم من جديد. لكن الاعتقاد المجرد في مجتمع كثرت فيه الاعتقادات والمعتقدات، سوف لن ينفع في تحريك الجمود، ولا في وقف التدهور وتكوين الصمود، ولن ينفع أيضا في تأمين غاية إحداث الصدمة النفسية الكافية لدفع الواقفين على التل للنزول إلى سفحه، والمحشورين في صف الانحراف، للعودة إلى الاتجاه الصحيح، وسوف لن يكون صائبا إذا لم يسـلك السائرين علـى هداه طريقا وإن كان وعرا بين أكوام الحقيقة المرة التي أوصلت مرارتهـا حريقٍ لم تهدأ نيران فتائله المشتعلة منذ ما يقارب النصف قرن من الزمان، وربما أكثر من ذلك، إلى أيام تأسيس دولته الحديثة عام 1921، إذا ما أستشهدنا لإثبات إستمرار الحريق بما كتبه في آذار عام 1932 الملك فيصل الأول في أحد مذكراته السرية واصفا ما يحدث أيام حكمه آنذاك، وصفا دقيقا وكأنه يعيش حرائق التناحر الطائفي، والإختلاف القومي، والتدافع الانتخابي لهذه الأيام، عندما كتب قائلا: ((أقول وقلبي ملآن أسى، إنه في أعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائما للانتفاض على أي حكومة كانت، نحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعبا نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين، وهذا التشكيل)). لكننا وبعد ثمان وسبعون عاما من تشخيص الملك المثقل بالهموم وكثر المرارة والشجون، تؤشر معالم سلوكنا أننا لم نتهذب بما يكفي لمجابهة الخطأ والاصرار على قول الحقيقة، حتى حولنا كل هزائمنا أنتصارات، وكل إخفاقاتنا إبداعات، كبيرنا يكذب ويضحك علينا معتقدا أننا نصدقه، ونكذب نحن على أنفسنا في إيهامها بوجوب التصديق، لأننا نخافه وهو الكبير، وإن كَذَب فكذبه أبيض، لا يُصنف ذنبا يحاسب عليه حسابا عسير. جربنا الكذب جميعا، على أطفالنا عندما يسألون عن الخلق والجنس والتكوين، وعلى أهلنا يوم يستفسرون عن علاقاتنا، وعلى أحبائنا في سياق الكلام عن مشاعرنا، وَجُرِبَ علينا من آبائنا والأجداد بنفس الطريقة وفي ذات التوجه والاتجاه، وكأن الزمن يتوقف فقط في حدود الكذب المسموح. فسرنا وإياهم في طريقه ركبا، يستسهل الجميع السير وسطه سبيلا في الحياة، لم نتوقف في محطة بجانب طريق أو نخفف من المسير، حتى أخذنا به فـي الحـرب وسوح القتال وسيلة خلاص وكسب غير مشروع، على الرغم من معرفتنا الواعية أن الكذب فيها أندحار، وسرنا على نهجه في البحث العلمي، أساتذة وطلاب لنفس غايات التجنب والكسب والوصول، على الرغم من إدراكنا الواعي أن الكذب في مجاله تحريف يمهد للسقوط، فشاع وسيلةً، وأصبح عادةً غالبةً في البيت والمدرسة والدائرة والشارع. وبضوئها يمكن التنويه إلى أن كذب بهذه السعة لا يطفئ حريقا ولا يبني أمة ولا يحميها من أعمال القاعدة والإرهاب. 

ويبدو أيضا أننا وعلى الرغم من مرور كل تلك السنين، لم نتدرب أو لم يكتمل تدريبنا الذي أراده الملك سبيلا للنهوض من واقع أحس بؤسه، والعيش في عالم حر ديمقراطي، تأمل حصوله، إذ إننا ومع كل هذه الدعوات التي نادت بها الأحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية بالتخلص من الديكتاتورية، والعيش في رحاب الديمقراطية لما بعد التغيير، لم نسلك سلوكا ديمقراطيا، حتى إننا قد فشلنا في ساحة التدريب والممارسة الفعلية للديمقراطية بعد أن بينت الوقائع أننا بعيدين عن خطواتها حدا بات فيه أستخدامها أداة سب وتسقيط، وإننا مستمرين في تفسير قوانينها وضوابطها بما يعود علينا بالفائدة دون الآخرين، ومستمرين في إضطهاد منتسبينا في العمل وقمع أولادنا في البيت، وإستعباد زوجاتنا في الحياة، والحقد على أقراننا في الاختلاف، والانتقام من خصومنا في الانتقاد، واستمروا معنا برلمانيونا الذين يفترض أن يكونوا قدوة لنا في السلوك الديمقراطي بنفس النهج والتفكير، حتى أتُهموا في السبع سنوات الماضية بوئد الديمقراطية يوم لم يحضر بعضهم إجتماعات البرلمان، ويوم صوتوا على قرار زيادة رواتبهم بساعة واحدة، وأنتظروا الاجتماع لتشكيل حكومة لثمان أشهر متعددة، فسمحوا هم بأنفسهم لفتح أبواب الانتقاد والتقويل، حتى تأكدنا إنهم مثلنا لم يتدربوا بما فيه الكفاية لأن يكونوا ديمقراطيين، وإن تمثيلهم لنا ناقص، وإنهم قد أعادونا إلى برلمانات العراق في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، عندما شاع عنهم آنذاك العبارة المشهورة (موافج) الأمر الذي يؤكد إنهم لم يتدربوا فعلا، لأنهم بقوا كما هم وسلوكهم في التصويت والتناحر والتعويق كما هو منذ الملك الأول فيصل، وحتى آخر برلمان، وإن أستبدلوا بتدريبهم غير النافع سلطة الشيخ في البرلمانات الملكية بسلطة رئيس الكتلة في البرلمانات الحالية. عليه يمكننا التأكيد على أن برلمانات من هذا النوع، وديمقراطية بهذا الشكل لن يبنيان بلدا ولن يخففان محنة، ولن يحولا دون حدوث المزيد من أفعال القاعدة وأعمال الخراب. 

ويبدو كذلك أن الكتل البشرية التي أراد فيصل تعليمها المواطنة، لم تتعلمها، وكأن تعليمها كان قاصرا عن منحها شهادة الوطنية العراقية، أو إن هذا النوع من التعليم قد منحها شهادة كانت مزورة مثل تلك التي حصل عليها محافظون وأعضاء برلمان ومدراء عامون، لأنها كتل فشلت في أول أختبار بعد أن أجلسها الاحتلال في قاعة أمتحان واسعة دون رقيب، خرجت منه منفلتةً، فتجزأت إلى كتل صغيرة، أرتدت سريعا إلى القبيلة وأيامها في الثأر والدية والنهب وضح النهار، وأستخدمت سريعا نفس الأباطيل الدينية التي أراد الملك كفها من التفكير، وعاودت نفس الجهود في أستثمار الدين التي شكى منها الملك، حتى أسهمت بعلم منها أو بسبب قصور مبادئ التعليم الوطني الذي تلقته عبر مراحل حياتها في إبقاء الخزين السلبي عن الوطن الواحد في الذاكرة كما هو محدود. وإبقاء العقول مفتوحة إلى تفضيل الجار من نفس الطائفة على إبن البلد المقيم، والاستقواء بالأجنبي على العراقي الأصيل. ومسامحة الغريب أو السماح له بقتل شيخا مسنا بمنجل حصاد للحنطة والشعير، لأنه سائر في طريقه مشيا لزيارة العتبات المقدسة، وذبح طفل رضيع من الوريد إلى الوريد، لأن أباه عمرا أو عليا قيل أنهما أختلفا منذ آلاف السنين، وإن لم يثبت إختلافهما علميا طيلة هذه السنين. ومنها يمكن الجزم بأن وطنية بهذا القدر المحدود لا تبني وطنا، ولا تسهم في تحقيق الاستقرار، وتجنب خبث القاعدة ومسببات الاضطراب. 

ويبدو أن ... وهناك منها الكثير، لا يمكن التقدم خطوة إلى الأمام في ساحة إطفاء حرائق القاعدة والارهاب دون الاعتراف بها علنا، ومن ثم وضعها حقائق في خطط شاملة لإعادة بناء الإنسان العراقي المهشم من جديد.                

                                                                             د. سعد العبيدي

                                                                              3/11/2010