كان هناك أربعاء دامٍ وأحد مثله دامٍ وأثنين أسود، حتى غطت القاعدة كل أيام الأسبوع في بغداد ببرقع أسود كئيب، وكانت هناك مشكلة تتعلق بالخروق الأمنية وبتكرار حصولها نوعيا، وبالدوران حول حدوثها وتأثيرها الرهيب، وكأننا وُضِعنا في حلقة مفرغة لا نعرف لها بداية ولا نهاية، نفتش ونتحرى ونتهم الغير، دون التقرب إلى أصل المشكلة وجذورها كما هو مطلوب. هذه المشكلة التي تعد أكبر من خطط التفتيش، وأوسع من إجراءات التحري وتبادل الاتهام. لإنها تتعلق في الأصل بالتركيبة الاجتماعية التي ولِفّتْ لتكوين عراق لم يتآلف أهله بعد، وفي طبائع السلطة وهويتها وبرامجها وطبيعة تشكيل مؤسساتها، التي تسيطر عليها الذاتية المصلحية، عادات لدى المسئول، جعلته بعيدا في أن يكون يوما، ذلك المعلم القدوة في إرساء قواعد المواطنة والاستقامة في السلوك، ومن أن يُخرِج نفسه من طوق الجزء الطائفي أو القومي المغلف به طوعا، إلى الفضاء الكلي للوطن العراقي كما يفترض أن يكون. ولإنها في طباع المجتمع الذي تنتشر فيه الأمية، وتسوء فيه أساليب الإدارة التي أنتجت بمحصلتها أشكالا معقدة من الفقروالجوع، وأشكالا أكثر تعقيدا للأستبداد السياسي. ولأنها كذلك في طباع الرعية التي لم تستجب إلى مفردات التعليم، ولا إلى مستلزمات التجانس والتنظيم، ولم تجاري حاجات التكوين اللازمة لبناء أمة متسامحة، بعد أن أبقت نفسها منذ نشأتها في محيط تلك الطباع موسومة بالشك الذي يقترب من أن يكون جينا وراثيا أنتقل معها من جيل إلى جيل ومـن نظام إلـى آخـر جـديد، خـلافا لعلـوم الوراثة التي لا تقبـل بهـذا الاقتراب. ولأنها في خصائص العدوان التي تأصلت في الشخصية، ميلا للقتل لم يسلم منه حاكم ملكا كان مثل فيصل الأول الذي مات في سويسرا موتة مشكوك بها وهو في نهاية الأربعينات من عمره، والملك غازي الذي قتل في حادث سيارة مشبوه، وإبنه فيصل آخر الملوك الذي قتل علـى يد مغامرين تآمروا على حكمـه بدعـوى الخلاص، وذبحوه عمدا وهو في ريعان الشباب ومعه الوصي، الذي تمتعت جماهير بغداد بتعليقه على عمود كهرباء وسكين قصاب منفعل يقطع أعضاءه التناسلية، ومعه أيضا رئيس وزراءه نوري السعيد الذي سحلته جماهير بغداد وتناثرت أشلاءه بين الأرصفة والطرقات، وعاودت ذكراه كأعظم رئيس وزراء... قتلٌ ومزيدٍ من القتل لم يسلم منه رئيس في عصر الجمهوريات مثل عبد الكريم الذي قتل على أيدي عسكر وحزبيين متآمرين، بدعوى الانقاذ، ومن بعده عبد السلام الذي قتل بحادثة طائرة سمتية مشبوه، ومن ثم البكر الذي توفي مسموما، وأخيرا صدام الذي فتشت عنه ذات الجماهير المنفعلة يوم سقوطه، وعندما لم تجده، سحلت أجزاء من تمثال له، كانت تتغنى له في المناسبات... قتلٌ لم يسلم منه أيضا إناس عاديون، ورثوا إسما لا يريده المتطرفون، أو ثروة أراد أختصابها المسلحون، نمت فنونه بنمونا في العمر وتراكم السنين، وزادت شدة التمتع بطرق أرتكابه تعذيبا لسلب الروح وتقطيعا للأوصال، كان أقلها تكرارا وتعذيبا أيام التأسيس الأولى للدولة العراقية الملكية قلعا للأظافر كما يقول الشيوعيون، ليكون قلعا لها وفقعا للعيون أيام الحكم الأول للبعثيين، ورميا في أحواض الحامض، وهتكا للأعراض في حكمه الثاني بعد خمس سنين، ومن جميعها بعد التغيير وثقبا للجماجم دون حنين... قتلٌ بأساليب متعددة، وتمثيلٌ في القتل بوسائل وأشكال متعددة، وغايات متعددة، ومن مصادر متعددة، من كثرتها وتنوعها، يحق لنا وصف طبيعتنا أو طبيعة البعض غير القليل منا، بانه مصاب بداء القتل العدائي، ووصف حالنا بعـد كثـر القتل والتشويه بجثث المقتولين بنسيان الأدمية في داخلنا، وفقدان الإحساس بالسعادة في داخلنا، حتى جئنا بالمرتبة 110 من 115 دولة في تصنيف لأسعد الشعوب، فحمدنا ربنا أكثر من مرة أن توغو جاءت من بعدنا في التصنيف. ولأنها تتعلق كذلك في التناشز المعرفي بين القول والفعل في حياتنا، شعراءٌ تُنشد لجميع الحكام دونما أستثناء، وفي خلواتهم يشتمون، وشيوخ تقدم الولاء لمن يعطي من الحكام وفي مجالسهم الخاصة ينتقدون، وعسكريون مرموقون يؤدون التحية للأعلى ويكبرونه عظيما وفيما بينهم يحتجون، وباحثون يغيرون ويحرفون بحوثهم خدمة للرئيس وهم لسماع إسمه لا يطيقون، وكتاب يشيدون ويكبرون حاكم سابق وآخر جديد وهم لا يخجلون، وآخرون يقدمون بناتهم هبة لأولاد الرئيس وهم لا يستحون، ومثلهم يتبرعون بالتجسس على أبائهم وأخوتهم وأزواجهم بطرق رخيصة لا يبالون، ومخبرون سريون في كل عهد يكتبون. ولأنها أيضا ذات صلة بهرولتنا اللاشعورية إلى سالف العصر، نكوصا إلى الماضي الأقل تعقيدا، مع كل مشكلة نواجهها في الحاضر، كان هو السبب في إستيراد التطرف من الخارج وفي عزل التيارات اليسارية والليبرالية وإنعزالها، حتى خسرنا عامل توازن بين إتجاهات الماضي وتطلعات الحاضر وقربنا أنفسنا من حافات الاضطراب، وعاودنا أستخدام الرهاب الثقافي والرمزي الذي أعتقدنا أننا قد تخلصنا منه يوم حصول التغيير، وعاودنا تكريس النمطية في السلطة من خلال الدعوة إلى الانتماء وتعزيز التبعية، وكأننا لم نتخلص من نمطية الحكم السابق وتوجهاته البعثية، وعاودنا بسببه أيضا شخصنة السلطة والاستئثار بمؤسساتها الضابطة والاتجار بالشعارات، وكأننا نقترب في العودة يوما بعد آخر من أسلوب الادارة الاستبدادية. ولأنها تتعلق أيضا في الإكبار والتضخيم والتملق أو الصنمية الموجودة في داخلنا، رغبات في إعلاء شأن الحاكم والانقياد له تماما ومن ثم الانقلاب عليه وتدميره لاحقا، حتى شيدنا تماثيل لكل ملوكنا ورؤسائنا بطريقة التأليه، وأنهيناها بإسلوب التهديم منذ فيصل الأول الذي بايعناه وأقمنا له تمثالا هرولنا نحوه في هستيريا تموز الدموي وأسقطناه وسط الفوضى والزحام، وشوهنا فترة حكمه بسيل من الكتابات غير المنطقية، ومن بعـد عبد الكريم الذي وصفناه، زعيما أوحدا وعبقريا منقذا، وأنشدنا له أملا في الخلاص من الفقر والابتئاس، ومن شدة الرغبة في التعظيم أوحى بعضنا إلى الملايين التي تقبل بطبيعتها الإيحاء، إن صورته واضحة على القمر بقدرة رب العالمين، فأقمنا له أكثر من تمثال، أسقطه دعاة ثوريون بنفس طريقته في الانقلاب والدموية وإسقاط أول تمثال، وأعدنا تقييمه دكتاتورا مجنونا بنفس طريقتنا في حرف التقييم، وهكذا يستمر الحال إلى البكر الذي أقمنا له تمثالا أردنا له أن يكون فاتحة عهد لآلاف التماثيل النوعية، فأسقطناه نفسيا، وتركناه دون إعارة أي أهتمام لوجوده واقفا في مدخل مدينة المنصور حتى غاب عن الذاكرة مثل غيره من الغائبين، ومعه أو قريبا منه صدام الامبراطور والملك، والقائد الضرورة، وأكثر من خطط للخلود عن طريق النُصب والتماثيل، صفقت له الملاين، ورقص في حضرته شيوخ عشائر ميمونيين، وعسكر من صفوف القادة المعروفين، خلعوا غطاء الرأس ودبكوا على مسرحه المشهور، وأطباء سجلوا أسمه على مخترعاتهمم من أدوية ومعدات، وفنانون طالبوا بإطلاق تمثال له في السماء من ذهب الماجدات، ومهندسون تفننوا في المعمار تأكيدا لخلوده والبقاء، وأكاديميون كتبوا مئات الرسائل الجامعية عنه، ومثلهم أهدوه رسائلهم تعزيزا لخلوده والوجود، وتجار وصناعيون تبرعوا له بملايين الدولارات، وبآلاف الجداريات والتماثيل، وعجائز فقدت أولادها في حروبه الخاسرة تمنت بمقابلته أن يأخذ المزيد، حتى أعتقد انه الأقوى والأجدر والأخلص والأفهم والأوفر حضا في الخلود، وبدفع منه ورمزية الصنم في العقول شيدت له أكبر التماثيل التي تهاوت بنفس الطريقة التي سبقتها يوم السقوط، حتى سلت عليه الاقلام والسيوف كالمعتاد، وكأن لا أحد قد مدحه أو رقص بحضرته كسلطان.

أنها مشكلة تمتد جذورها عميقا  في تعقيدات الذات الانسانية العراقية، لايمكن القفز من فوقها في تناول مشاكل العراق، أمنية كانت أم سياسية دون الاعتراف بها علنا، ومن ثم وضعها حقائق في خطط شاملة لإعادة بناء الإنسان العراقي المحطم نفسيا، من جديد.                

   

                                                                                    د. سعد العبيدي

                                                                                     4/10/2010