لم ينكر أحد من بين العراقيين أن صدام إبان حكمه الديكتاتوري يقرر تشكيل دائرة أمنية أو وحدة عسكرية مهمة فيختار لإدارتها أفراد من بين أقاربه والموالين له شخصيا، وكان يعين لمعاونتهم خبراء ومتخصصين ويدفع إلى تقويتهم ومنحهم الصلاحيات اللازمة بقصد التأمين الجيد لحاله وأفراد عائلته الممتدة، وفي المقابل بعد التغيير يقرر السياسيون الجدد تشكيل دائرة مهمة ويأمروا في إيكال قيادتها للقريبين ولا مجال فيها للخبراء والمختصين. ولم ينكر أحد أنها طريقة في الإدارة أسهمت في الماضي بفرض هيبة الدولة وبسط سيطرتها على المجتمع بالقوة المفرطة لعشرات السنين، وهي في الوقت الحاضر طريقة ستسهم في إشاعة الفوضى والاضطراب وربما تسرع في حدوث الانهيار. وفي الجانب الآخر لم يستطع أحد أن ينكر أننا وفي الطريق للتخلص من تلك المعاناة والشروع في إعادة بناء بلدنا ديمقراطيا نحتاج أولا إلى الحدس الأمني والكفاءة العالية، وإلى قوة السيطرة والقرار الحاسم، والتوزيع المعقول للصلاحيات. وإننا في السعي لتحقيق ذلك نواجه مصاعب في تحديد الوسيلة، وحيرة في رسم الخطوات، واستغراب من نهج التفكير، وإن أمثلتها كثيرة ومتعددة خاصة تلك التي تتعلق بالتسابق الجاري لاختيار الأشخاص إلى المناصب المهمة وفق أسس لا صلة لها في أحيان كثيرة بالتاريخ الوظيفي، والكفاءة الشخصية والخبرة العملية، والولاء المطلق للوطن بعد أن استبدلها أولئك المتسابقون بمعايير الإملاء الحتمي للشواغر المتاحة وفق القرابة من العائلة والعشيرة، أو الرفقة من الحزب والحركة، أو الأخوة من الطائفة والقومية تعزيزا لمبدأ التفوق والنفعية وتقاسم التركة لوارث مشهور بالتقتير. ولم يستطع أحد أن ينكر أن البعض من هؤلاء المتسابقين نسوا في جريهم السريع على الطريق الطويل للتغيير وإعادة البناء مشاعر الآخرين من العراقيين الراغبين بالمساهمة، الساعين إلى العيش المقبول واحتمالات شعورهم بالحيف أو الحقد على الحاضر والمستقبل، أو تناسوا وهم في لجة التحصيل حقيقة كون الغالبية من العراقيين يمتازون بصعوبة الرضا عن الحال وإن كانت جوانبه طبيعية. لكن المشكلة اليوم ليست في الجري السريع والقبول المستسلم للواقع الذي دفع لقيادة أركان الجيش العراقي على سبيل المثال ضابط لم يتخرج من الأركان ولم يعمل آمر فوج، ولا بترشيح آخر بدلا عنه مشهود له بخدمة النظام السابق حتى آخر يوم قبل السقوط، وليست في حشر مديرية الاستخبارات العسكرية العامة في غرف ثلاث بمقر يعج بجمع من المراجعين يصعب التفريق فيه بين الموظفين والمتطفلين، ولا بترقية نقيب إلى رتبة لواء، والأمر إلى عقيد أن يتعين بمنصب نقيب. إن المشكلة أو مجموعة المشاكل الحقيقية التي نعيشها في وقتنا الراهن تتمثل في معالم اليأس والإحباط التي باتت تسببها تلك الأعمال الخطأ والتي لم يدرك السياسيون الجدد آثارها المستقبلية على وضعهم السياسي وعلى حاضر العراق ومستقبله. وكذلك في وهم القرابة التي يعيشها البعض من المتسابقين والتي شكت عائلة صدام من خيانتها بعد صدمة التغيير، ووهم التعنصر الطائفي والقومي الذي أقحمه صدام في معادلة الحكم طوال السنين، ولم يتمكن من إعانته على الصمود ساعات أمام قوى التغيير، والمشكلة أيضا في إن الحل وسط هذا التناقض والتعقيدات يكمن فقط بالخروج من تلك الأوهام وعقد الماضي والتوجه لإدارة الدولة والمجتمع كما كتب في أدبيات المعارضة قبل التغيير، وحاجة البلد إلى الاستفادة من كل الطاقات النزيهة، لأن الحلول الأخرى تأتي على الأغلب من بعد الصدمة التي قد ندفع بسببها الكثير.


                                                                   د. سعد العبيدي

                                                                    6/8/2004