أدار صدام حسين الدولة والمجتمع للعقدين الأخيرين من حكم حزب البعث تأسياسا على إعتقاد من أن العراقيين صعبي المراس ، وإنهم لا يرضون بسهولة وإن رضوا فإن ثباتهم على مستوى معين من الرضا مسألة غير واردة ، وكذلك لا يقتنعون بمن يديرهم بسهولة ، يبايعون لفضيا ، ويعارضون أو يرتدون بمبايعتهم عمليا ، القليل منهم متحمسين مشاركين ، والغالبية متفرجين ، منتظرين ، وعلى وفق هذه القناعة كانت بدايته:

خزينة الدولة في يده الشمال يكرم منها لمن يشاء بقصد زيادة مستوى الرضا والقناعة بحكمه شخصيا وتقليل فسحة المعارضة في السلوك الجمعي عمليا وإغواء أكبر قدر من المتفرجين "الواقفين على التل"من أجل النزول إلى ساحة المشاركة .....وقودا لديمومة حكمه و سيف مسلول في يده اليمنى يقتل فيه من يشاء ممن يتكلمون بالضد لأن الكلام في غير صالحه يزعزع القناعة . ويطعن فيه من يفكر بالخطأ لأن التفكير في غير ما يريده يقلل مستوى الرضا. ويسلطه على رقاب المتفرجين مهددا إياهم بالقتل والإبادة الجماعية لأن التهديد بالموت المستمر ينشر الخوف ويدفع بجموعهم إلى النزول من الأعلى مرعوبين ليشاركوا قطعانا بأعماله دون وعي منهم بالنتائج.

والمحصلة نجاح مؤقت لإرضاء الذات الحاكمة أي تمتع الحاكم بميزات الحكم وإقتناعه بصحة طريقته في الحكم من جهة.وتأجيل فعل الضد من وجوده لفترة غير قليلة من الزمن أنتهت بفوضى الانفلات الانفعالي والتدمير الشامل لوجوده والمجتمع من جهة أخرى.

ومع إعتراف العراقيين بعد فوات الأوان بخصائصهم النفسية "الخطأ" التي اسهمت في تعميم الظلم والاستبداد بين صفوفهم، ومع ميلهم الجمعي لجلد ذواتهم بالسماح لإرتكاب الخطأ والتغاضي عن إرتكابه في مجتمعهم ،لم يستفيدوا من فسحة الزمن التي أزالت بعض الغشاوة ويسعوا لإزالة الخطأ وتعزيز الصح في السلوك، فنجد الأغلبية منهم على سبيل المثال قد عادت إلى التل في صفوف المتفرجين، والبعض منهم يتقلب بين الرضا واللا رضا عن الموجود ، والبعض الآخر يبايع جهة ويمني أخرى بالمبايعة وعينه على الثالثة تبعا لما هو مأمول. ومع ذلك فإن الخطأ في السلوك بين الشعوب لا يمكن أن يمحى من ذاكرتها بالتمني أو بين ليلة واخرى بل يتم فقط بجهود الحكومة وتدخل المصلحين، وهنا بؤرة الأزمة أو لب المأساة في عراق اليوم إذ أن المصلحين والاختصاصين والمعول عليهم قد استهدفوا في بداية الطريق عزلا وإغتيالا وتشتيتا بين الداخل والخارج ، والحكومة قد عاودت الاقتناع بنفس القناعات المذكورة في أعلاه حول خصائص الشخصية العراقية وبدأت تتعامل مع واقع إدارتها أحيانا بذات الطريقة التي بدأها صدام وحزب البعث منذ أكثر من ثلاثة عقود إذ توجه بعض أطرافها إلى توزيع الهدايا والمكارم وبينها جرارات مكرمة على شيوخ عشائر أجتمعوا مع الحكومة قبل فترة قليلة من الوقت، وكان توزيعها بطبيعة الحال لا يتأسس على حاجتهم لزراعة الأرض وسد حاجة العراق من الحبوب والخضرة ، ولا  لتخصيصها وقفا لفلاحي العشيرة من اجل الصالح العام بل لكسب الرضا، وتغيير القناعة،وتثبيت المبايعة  قريبا من وقت الانتخابات وكما كان يفعل صدام، وبذا سجلت الحكومة إثما بحق الشخصية العراقية المطلوب التدخل لتغييرها إيجابيا وكذلك تجاوزا على منطق السيف والدينار في إدارة الدولة لأنها حتى هذه اللحظة لا تملك السيف في يدها اليمنى كي تنشر الخوف وتدفع الجموع إلى تأييدها كما كان يفعل صدام، ولا الخزينة عامرة في يدها اليسرى لتستمر في إغواء شيوخ التسعينات الذين أشبعهم صدام حد الرقص في حضرته وتحول قسم منهم من بعده إلى جوالين بين القوى السياسية والأحزاب يعرضون قوة العشيرة لمن يدفع أكثر من السياسيين.... إثم وتجاوز سوف لن ينتهي في العراق إلا بالتوجه إلى انتخاب الحاكم وصياغة دستور يحدد صلاحياته في أن لا تكون مطلقة كما هو معهود.

د. سعد العِبيدي                                            29/12/2004