عندما يواجه الإنسان موقفا ضاغطا لاطاقة له على تحمله والتعامل الصحيح معه يرجع في سلوكه للتعامل مع حالته إلى أحد مراحل الطفولة التي شهدت انفعالا مشابها يرى التحليل النفسي فيه نكوصا مرضيا يسلك فيه المعني سلوكا طفوليا، فيبكي على سبيل المثال عندما لا يحصل على شيء يريده، وينفعل غاضبا إذا ما منع من عمل شيء يرغب في تحقيقه. وهكذا تتكرر الحالة في مشهد يكون فيه سلوك المصاب نفسيا أقرب للسلوك الطفولي منه إلى المنطق الذي يحكم الراشدين في تصرفهم وتعاملهم مع مفردات العيش والحياة. هذا على المستوى الفردي ويبدو أنه وعلى المستوى الجماعي يعاني الناس في المجتمعات البشرية نفس الحالة إذ وعندما يواجه مجتمع ما مواقف لا قدرة له على تحملها جماعيا ينكص بعض الأفراد " الأقل قدرة على التحمل" إلى الماضي الحضاري للتعامل مع المواقف الحالية، وهذا ما يفسر لنا التسارع في العودة إلى الماضي البعيد في معالجة حال العراق من الناحيتين الدينية والسياسية، فنرى وبضوء هذه الحقيقة أننا وكلما نواجه أزمة أو شدة يخرج منا من يضغط على الشباب في أن لا يلبسوا مثلا السراويل القصيرة والعودة إلى الجلباب الذي لبسه الأجداد قبل مئات السنين عندها يصبح الجلباب نكوصا نفسيا للتعامل مع حالة لم يكن فيها السروال عائقا أمام الفقه لحل الأزمة، وبنفس الاتجاه عندما تضيق الحالة وتشتد الضغوط المؤلمة يخرج من بين الصف من يعتقد أنه الحامي الحقيقي للدين من التدنيس والضياع في دوائر الدولة ومدارسها والجامعات فيأمر بلبس الحجاب لعموم البنات حتى المسيحيات منهن وكأن على الحجاب تتوقف الصراعات الطائفية والاحتقانات الدينية عندها يصبح الإلحاح في لبس الحجاب على حساب الرغبة والحرية نكوص نفسي إلى الماضي الذي لم يكن فيه الحجاب عائقا أمام النشر السريع للدين الإسلامي في المعمورة، وما ينطبق على الدين في المثالين السابقين وأمثلة أخرى كثيرة لا مجال لذكرها في مقال كهذا يمكن تعميمه على السياسة الذي لم يتمكن المجتمع من إنتاج وقائع لها قادرة على التعامل مع أزمة التغيير والاحتلال، وإعادة البناء الديمقراطي وبدلا من التفكير بالحلول العصرية المنطقية للتعامل مع هذه الحالة الآنية توجه البعض من السياسيين إلى طرح مشاريع تفرق بين المجتمع الواحد وتقسم البلد الواحد، وسلك الجميع سلوك الفرقة والتشظي فأسسوا أحزابا وجماعات يصعب جمعها في أهداف مشتركة لكثرتها، وتعدد غاياتها، والفرقة والتشظي نكوص إلى أيام العرب الغابرة في الأندلس وأواخر الدولة العباسية وغيرها التي أدت في نهاية المطاف إلى أفولها.

إن النكوص إلى الماضي حالة مرضية في التعامل الشرعي أو الديني مع مواقف الحياة الضاغطة في عراق اليوم التي تحتاج إلى التهدئة، والتسامح، والانفتاح، وتقليل المعاناة في ظروف البلد الصعبة لأن الإصرار عليها والعمل على تطبيقها بقوة السلاح والتهديد باستخدامه سيكّون أعباء وضغوطا مضافة قد تدفع الشباب إلى النكوص إلى المرحلة العمرية التي يتمردون فيها على سلطة الدين والدولة فيسلكون العكس من أوامر الدين ونواهيه الشرعية الصحيحة، عندها سيجد من استخدم البندقية لفرض الحجاب والسروال وإطلاق اللحى وغيرها أن الآخرين قد امتلكوا البندقية أيضا في التخلص من أوامرهم في الظروف الصعبة، وسيجد المتطرفون أنهم يدفعون حياتهم وربما القريبين منهم ثمنا لأفكارهم التي لا تنسجم ومتطلبات العصر والرغبة في الإصلاح التي تتحقق فقط عن طريق الحوار والحجة والرغبة الصادقة في الإصلاح، وسنكتشف بعد عشرات السنين أننا في أتون حرب عالمية ضد الإسلام كانت بعض أدوات التدمير في ساحتها أولئك الذين استخدموا البندقية لفرض مفاهيمهم وأفكارهم على الشباب في غير أوانها.

د. سعد العبيدي                      26/9/2006