لم يكن خيار للشاب الذي قدم من الريف إلى بغداد سعيا لتحقيق الذات، وكسب الرزق الذي انتظرته العائلة طويلا إلا أن يقف مع جموع المنتظرين ليقدم أوراقه شرطيا في قوى الأمن الداخلي أو جنديا في الحرس الوطني، فيصادف أن يكون مع غيره من الساعين في اللحظة التي وصل فيها انتحاري خطط لأن يفجر نفسه بين جموع الساعين إلى العيش، فيهلك الشاب وآخرين معه في الانفجار قبل أن تفي والدته بنذرها قربانا للتعيين فكان موته والعاطلين البائسين خطأ في الزمن الخطأ. ولم يكن لصاحب سيارة أجرة من مجال للتفكير في أن الشباب الذين ينقلهم من مكان إلى آخر في السيارة التي أشتراها بالتقسيط هم ضباط شرطة يرومون الالتحاق بدورة تدريبية وهم يحلمون بالمستقبل الواعد، ولم يسعه الحال في أن يستنتج أن كل الذين يحمون الوطن هم أهداف للتصفية فيستمر في السير حتى منتصف الطريق الذي نصب فيه كمين لإبادة صنف الشرطة، فيهلك السائق ومن معه من ضباط بوابل النار أمام الناس في وضح النهار فكان موته والساعين إلى إعادة الأمن والاستقرار إلى بلادهم الجريحة خطأ في الزمن الخطأ. ولم يكن أستاذ المنطق يفكر يوما أنه سيصبح هدفا للقصاص من العلم والعلماء وهو البعيد تماما عن سوح القتال، فيقصد جامعته يوميا بنفس الوقت ومن نفس الطريق الذي يحس فيه فجأة أن ملثمين في سيارة صالون من صنع ألماني بلا أرقام يشهرون عليه السلاح وسط الشارع المكتظ بالمارة يصوبون بنادقهم إلى رأسه المزدحم بالأفكار ومشاريع التطوير، فيردونه قتيلا قبل أن يحاججهم بالمنطق على أنه ليس طرفا بما يجري من أحداث، وإنه أستاذ لأجيالهم ومن بعدهم من أجيال، فكان موته وشهادة الدكتوراه، وخططه لنقل العراق من الجهل إلى النور خطأ في الزمن الخطأ. ولم يستطع موظف حكومي مرموق يستقل سيارته للتنقل من بيته في الكرخ إلى دائرته في الرصافة أن يتفادى دبابة أمريكية قرر سائقها أن يستدير فجأة إلى الشارع الثاني في اليسار للتعامل مع إطلاق نار قريب، فيكون وسيارته في لحظة الاستدارة تحت سرفة الدبابة، فيموت ممزقة أشلاءه دون أن يسمع أحد صرخته طلبا للنجدة والاحتجاج، فكان موته ومحاولة الرد على من أطلق النار، خطأ في المكان الخطأ. ولم يكن باحث جامعي موزون قصد المتنبي شارعا لبيع كتب المعوزين وهو في طريق عودته مشيا على الأقدام عبر ساحة الرصافي أن يتجنب انفجار سيارة مفخخة أودت بحياته وزميل رافقه بقصد التسلية في تصفح الكتب الثمينة يوم الجمعة عطلة المسلمين وغير المسلمين في عراق المحبة والتآخي، فكان موته واحتراق الكتب التي تأملها غذاءً لذاكرته المتعبة خطأ في المكان والزمان الخطأ. ولم تكن .............الخ من بعض حوادث الموت التي لم تحصل في العراق بسبب القتال في ساحات المعركة المفتوحة على مصراعيها، ولم تتم في العراق نتيجة المعارضة المسلحة التي تتسع رقعتها، ولم يشأ أحد من أهل العراق أن يتفادى وقوعها لأنها النتيجة العرضية للحظ المتعثر والقسمة البائسة، أو لأنها الثمن الذي ينبغي أن يدفعونه جميعا للتخلص من الشدة.  

ومع ذلك وأي كان التفسير، أو التبرير الذي يكثر في وقت المحنة فإنه الموت الخطأ في المكان والزمان الخطأ، وإنه الواقع المر الذي لا يمكن الخلاص منه إلا في حال الانتقال من هذا الزمن إلى آخر غيره، أو أن تقر الحكومة ومعها المسجلين في قوائم الموت من العراقيين أن عملية الانتقال في الوقت الحاضر مسألة مستحيلة، وبدلا عنها يحاولوا معا تغيير بعض مفردات الزمن الذي تتسبب الإماتة الخطأ، وهي كثيرة أولها الاعتراف بالتقصير، وليس آخرها العودة إلى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لتفادي المزيد من الموت عن طرق الخطأ.


د. سعد العبيدي                                              17/9/2004