انتهت الخطوة الأولى لانبثاق الحكومة ومجلس الرئاسة بسرعة وسهولة نسبية لم تكونا متوقعتين فجنبتا المجتمع العراقي احتمالات التقاطع والفرقة، وغزارة النقد والتجريح بالمقارنة مع طريقة إخراج مجلس الحكم، خاصة فيما يتعلق بالإيغال في الطائفية والمحاصصة التي حالت بعض الأسماء والتخصصات والرغبة في التخلص من ضغوط المرحلة دون اتهامها الإصابة بذاك الاضطراب المؤلم. وأعلِنتْ الحكومة على الملأ فتنفس العديد من العراقيين الصعداء تأكيدا منهم على انتهاء فترة من الزمن كانت صعبة، وسعيا منهم للتعلق بآمال عسى أن تكون قابلة للتحقق في الزمن القريب. لكن بعض المتابعين الواعين لما حدث وخلال مراحله الأخيرة التي عرضت عبر الفضائيات شعروا بالإحباط بعد أن دفعهم عريف الحفل بتعمده المداهنة وإكبار المسئولين الجدد في نظر الجمهور إلى تذكر خمسين سنة من ذاك المدح الرخيص، والإعلاء غير المبرر، والقلق من معاودة تطبيقه على الرؤساء والحكام الجدد وهم بعدهم في بداية الطريق، أو بالمعنى الأصح ما زالت خلايا الأنا في داخلهم لم تصب بسرطان العظمة. لأن الذي شاهدناه وإن لم يرق إلى ما كان يحدث أيام صدام وما سبقه بداية تؤشر أن اضطراب تضخيم الذات العمدي ما زال موجودا في داخلنا، وإن التلذذ بالنظر إلى الأعلى ما زال خاصية في سلوكنا..... اضطراب قد يدفعنا إلى البدء من نقطة الصفر في محاربة الديكتاتورية والتسلط لنجد ثانية بعض الشعراء يغيرون  اتجاهاتهم ليتغنوا بقائد هو الآخر مقدام، وبعض الأطفال يساقون إلى الشدو بعبارات تغيرت فيها الأسماء ليكون القادم هو أيضا فارس همام، وبعض الشيوخ يفتشون عن صيغة ارتباط بدوائر الرئاسة الجديدة تقدمهم إلى القاعة الكبرى ليعلنوا على أرضها الولاء المطلق بدبكة لم تتبدل فيها الحركات، وسنجد البرقيات والتهاني والكثير من مظاهر السلوك السلبية التي لم نتعض منها ولم نتذكر نتائجها يوم أكبرنا صدام درجة تلو أخرى حتى ضن نفسه القائد الأعظم، والمفكر الأوحد، والمهندس الأفهم، والكاتب الأكبر، وبالمحصلة صغرنا في عينه فعاملنا درجة أدنى، وساقنا سوء العذاب.

إن التعظيم الذي تعود جذوره إلى الحضارة الوثنية لن يتحمل تبعاته كاملة الرئيس ولا غيره من المسئولين لأنهم بشر يشعرون عادة بالرضا والنشوة عندما يمدح أحد خطواتهم ويستحسن قراراتهم، بل يتحمله بالدرجة الأولى المجتمع والمحيطين، لأنهم من يصب أو يراكم انفعالات هذا التعظيم في عقل المسئول الأعلى ويزيده كما لمستوى يدفع لاحقا من لديه الاستعداد النفسي إلى الشعور بالتفوق والعظمة، عندها تبدأ مرحلة الديكتاتورية والتسلط التي يخطأ أو يتوهم من يضن إنها قد انتهت في العراق إذا ما دقق في معظم أحزابنا السياسية التي لم تبدل أمنائها العامين، وفي دوائرنا الحكومية التي يتدافع العديد من أجل الوقوف على قمة هرمها، وفي عقول كثيرين يفتشون عن الصنم. والتعظيم على هذا الأساس محنة لأن المتلقين لم يدركوا آثاره المستقبلية ولم يتوقعوا أن مفرداته قد تغرق العراق ثانية في بؤس الاضطهاد، وهي كذلك لأن المحشور في دائرته" الحاكم" لم يع أنه خطر على وجوده حيث لم تحم كل مفرداته وطقوسه من سبقه من الحكام، والشواهد في تاريخ العراق كثيرة منذ الأيام الأولى لذبح الملكية عندما وضعنا عبد الكريم قاسم صورة في القمر، وأسهم بعضنا في قتله غيلة ورمي جثته في دجلة لكي لا يكون شاهدا على المأساة، ومن بعده عبد السلام الذي صفقنا له منقذا، وحدويا وقتله بعضنا حرقا في طائرة سمتية لكي لا يشعر أحد بالمأساة، وفي العقود الثلاثة الأخيرة الشاهد الأوثق حيث المناداة للبكر أبا قائدا ومن ثم إماتته خفية بجرعة سم قاتلة، والسلسلة مستمرة، كان آخرها أو نتمنى أن يكون أخيرها صدام الذي حاول البعض أن يشيد له تمثالا من ذهب الماجدات يطلق إلى الفضاء تثمينا لجهوده وتعبيرا عن عظمته التي سحبته أخيرا إلى الاحتماء بمخابئ الجرذان. إنه التاريخ القريب الذي يمح من الذاكرة ولم يحوره الأفاقون عسى أن تكون وقائعه درسا لتجاوز محنة التعظيم، وعبرة للحكام الجدد في أن لا يكونوا من بين ضحاياها.

4/6/2004