أنصفت الحكومة المتضررين من نظام صدام بإعادة حقوقهم تعيينا في دوائر الدولة لمن لم يكن قد حصل على وظيفة كان يستحقها في حينه، واحتساب الفصل من الوظيفة التي كان يشغلها لاغراض الترقية والتقاعد لمن كان  موظفا، وهذا حق لمثل هؤلاء على دولتهم وإنصاف لمظلوميتهم بإعتبارهم متضررين، وقد حددت الحكومة ضوابطا لإثبات الضرر وتاريخا لإنتهاء هذه العملية، وهذا حق لها في إدارة الموضوع إدارة صحيحة تمهد إلى الحق والانصاف.

لكن الذي جرى هرولة لآلاف الموظفين المدنيين المستقيلين يوم أنتعش السوق العراقي للعمل نهاية سبعينات القرن الماضي، وبات التحصيل المالي فيه أضعاف الرواتب التقليدية للموظفين، حتى لم يستطع البعض منهم مقاومة هذا الإغراء فتوجهوا للتوسط، أو التمارض، أو الغياب وسيلة لترك الوظيفة، وتذكروا الأن أن الفرصة سانحة لاستثمارها في تحصيل مالي مضاف يتأسس على فبركة مواقف نضالية بالضد من ديكتاتورية صدام. ويوم أشتد القتال في حروب كثرت فيها أعداد القتلى والاصابات، ولم يجد البعض من الضباط وضباط الصف بد من النجاة إلا التوسط أو التحايل على القانون والخروج من الخدمة العسكرية لأسباب تتعلق بعدم الكفاءة، أو الزيادة على الملاك، أو لأسباب صحية، وتيقنوا الآن أن الفرصة مثالية لتعديل رواتبهم، وربما العودة للخدمة في الجيش الجديد تتأسس على تزوير المواقف النضالية بالضد من نظام صدام.

هرولة باتجاه الوزارات كافة لتثبيت المواقف قبل إنتهاء فاعلية القرار،  والأحزاب السياسية التي فتح بعضها أبوابه واسعة لتزويد من يهرول باتجاهه بتأييد الانتماء وتأكيد الضرر أملا في أن يكسب جمهور، وهرولة أخرى باتجاه من أعدم أو سجن أو سفر من العائلة ليستنسخ إبن العم والخال والخالة وأبناء أبنائهم شهادة وفاة الشهيد المعدوم أو مقتبس حكم المظلوم ويعود مهرولا بها إلى الجهة المعنية مؤكدا أنه من المتضررين بسبب القرابة وتعامل النظام السابق مع درجاتها السبعة، متناسيا تلك البراءة من الشهيد التي قدمها للأجهزة الأمنية يوم إعدامه، والتهرب من واجب الزيارة للمظلوم يوم سجنه، والإهمال المتعمد لواجب السؤال عن المنكوب يوم تسفيره.

إنها هرولة فيها كثير من المفارقات حد الكذب على الدولة، والتزوير المتعمد لوثائق ثبوتية ومستندات أصولية، وفيها إهانة للنضال وإقلال من قيمة العمل الذي أعدم بسببه الشهيد، وفيها ضحك على ذقون الأهل والأقرباء ، وفيها كذلك خسائر واضحة للدولة التي تكون ملزمة لدفع الزيادات مليارات الدنانيير من ميزانيتها المرهقة في أبواب إعادة الإعمار، وتكديس لآلاف الموظفين في بطالة مقنعة وهي في الطريق لإعادة البناء، وفيها أيضا إجحاف لحق المتضررين الحقيقيين لأن كثرة الطلبات تضعف القدرة على التدقيق، وتقلل من فرصة الوصول إلى الحقيقة التي بات تزويرها أو فبركتها من أسهل الأمور.

لقد أدت الدولة ما عليها من إلتزامات يوم أصدرت قرار الإنصاف، وبقي إلتزام المواطن نحوها ناقصا، أو مختلا عندما سلم ذوي الشهيد شهادة الوفاة لمن لم يكن متضررا بالفعل، وزود الحزب كتب تأييد بذلك لغير المستحقين، وعندما قبلت معاملات غير أصولية، وإجريت وساطات غير قانونية، حتى باتت هذه المسألة الإنسانية التي أريد لها أن تنصف، وتعيد الاعتبار، سبيلا لفساد سوف لن يتوقف الضرر بسببه عند تحميل الدولة عبئ مالي، بل وسيمتد ليخل بالمعايير القيمية والإنسانية لمجتمع مطلوب منه أن يوجد قيم عليا للأمانة والالتزام، ويرمم أخرى للإستقامة والصدق والاحترام تساعده في عملية التحول والانتقال إلى المجتمع الجديد ما بعد الديكتاتورية.

د. سعد العبيدي                               30/9/2005