لا يمكن الجزم أن عمليات بيع جهد العسكر وإذلالهم بشكل مخطط ومقصود قد بدأت لأول مرة بعد 9/4/2003 بعد أن خسرت الدولة عمليا معركتها مع الحلفاء، وبعد أن دفعت والعراق ثمن الخسارة حل الجيش والسماح إلى ضباطه ومنتسبيه أن يتوجهوا إلى بيوتهم عاطلين عن العمل، ساعين إلى العيش بعيدا عن مهنيتهم، وخارج ضوابط رتبهم، لأن أحداث الاستهانة بهم والدفع لبيع جهدهم عمليا قد بدأت بعد العام 1991 عندما توجه وبسبب العوز والحاجة عميد في أحد الصنوف المقاتلة على سبيل المثال أن يعمل سائق تكسي بسيارته التي استلمها مكرمة من قائد الجيش، وسار آخر أن يكون مساعدا لدلال عقارات كان يوما جنديا يعمل بإمرته تجاوزا على ضوابط وأعرف الجيش، وقصد ثالث محلا تجاريا وقَبِلَ أن يكون فيه بائعا لأدوات لا صلة لها بمعدات الجيش، وهكذا كان الرابع والخامس حتى وصل الرقم الحقيقي آلاف يصعب عدها في ظل غياب الإحصاء الدقيق في دولة لا تؤمن بإلاحصاء، فتسجلت في واقع الأمر أول حالات البيع غير المباشر لجهد العسكر ومسخ لمهنيتهم لم يكن يألفها الجيش العراقي ولا يقبل بوقائعها في قوانينه السارية، وتأسست في واقع الأمر أيضا بدايات القبول غير المشروط لكل حالات البيع التي وصلت قيم العسكر، وأسرارهم، وتاريخهم، ورتبهم، ومهنيتهم، وتنظيماتهم العسكرية، وفي مجالها رأينا خلال السنة والنصف الأخيرة بوضوح أن ضابطا برتبة لواء هرول مسرعا ليكون مترجما عند العريف الأجنبي فكانت هرولته بيعا للجهد والرتبة وسط النهار، وتوجه ضابط برتبة فريق ركن في الجيش العراقي لأن يكون وسيطا مرة ومرشدا مرة أخرى، وداعية لتجميع الضباط المتضررين في جمعية خيرية مرة ثالثة، فكان عمله وتنقله الذي لا ينسجم والمناصب العليا التي شغلها أيام حكم البعث وصدام بيعا للقيم العسكرية ومهنيتها، وقبل ضابط برتبة عقيد أن يعمل في الحرس الوطني برتبة نقيب وهو المصنف معلم مشاة من الطراز الأول، فكان قبوله "وإن فسر استجابة لضغوط العيش" بيعا لرتبته العسكرية في سوق لا يرحم القائمين عليه حملة الرتب العسكرية وإن كانوا ممن قاتل صدام، وسمح القائمون على إعادة تنظيم الجيش بعد تحريره من الطغيان أن يحددوا وصول طائرتي استطلاع استرالية وتحليقها لأغراض المراقبة وجمع المعلومات أن يكون التحليق الأول منتصف شهر أيلول 2004 عيدا لتأسيس القوة الجوية، وإعلانهم هذا في الصحف وأجهزة الإعلام بيعا صريحا لتاريخ القوة الجوية وانتهاكا صريحا لوطنيها والجيش في آن منعا، وتوجه ضابط في هندسة الميدان إلى أن يكون خبيرا في مجموعة لزرع الألغام على طريق يسلكه العسكر الجديد، وآخر من الهندسة الآلية الكهربائية لأن يكون عاملا في مجموعة تفخيخ وتفجير السيارات وسط جموع الساعين إلى التطوع في قوى الأمن الداخلي والجيش الجديد، فكان توجههما وباقي التخصصات بيعا لمهنية العسكر. والذي لم يتوقعه وسطاء بيع العسكر وتجار أسواقهم الرائجة هذه الأيام أن يصل الحال إلى قيام جمع من ضباط الركن بمحاولة تشكيل فرقة مدرعة بعيدا عن توجيهات الجيش ورغبات الدولة، وبمحاولتهم هذه دعوا ضباطا آخرين وضباط صف ومراتب من العاطلين دون موافقة الأجهزة المختصة، لأن يتجمعوا في شارع الربيع ليبدأو التسجيل واعدين أنها ستكون فرقة رائدة تقبلها الحكومة وتقبل أن يكونوا هم قادتها، فتدافع الجياع كعادتهم على الأرصفة المكتظة حتى فرقتهم سيارة مفخخة، فكانت فكرتهم ومساعيهم لاستغفال الدولة، وغفلة الدولة عنهم بيع صريح لجهد العسكر وخبرتهم في مزاد بخس.
إن عمليات البيع المذكورة في أعلاه وغيرها التي بدأت منذ العهد السابق واستمرت في العهد الجديد تعبر أساسا عن تصدع للمعايير القيمية، واضطراب للمشاعر الوطنية، وخرق لجوانب التحصين النفسي والمعنويات، وخطأ كبير إن لم يتم تداركه سيدفع بسببه العراقيون والدولة ثمنا لم يكن في الحسبان.
د. سعد العبيدي 24/9/2004