ولد العسكر العراقي من الرحم التركي، إذ أسهم في التأسيس مجموعة ضباط عراقيين تخرجوا من الأستانة وخدموا فترة في الجيش التركي ومن ثم أخذوا على عاتقهم النهوض بمراحله الأولى بعد عام 1921. وترعرع العسكر العراقي في البيئة الانجليزية، إذ تولى الإشراف على التدريب ضباط وضباط صف إنجليز منذ الأيام الأولى للتأسيس، وكذلك كانت أسس التعبية والتجهيز والتسليح والضبط حتى فترة قريبة من عام 1958. وتصرف ذلك العسكر في تنفيذه للمهام عراقيا، إذ نفذ واجبات في شمال العراق وجنوبه وأستنفر للتدخل في المدينة والريف، وعاون في رصف الطرق وتنظيم السدود، وأحس كثير من ضباطه بالمحن التي ألمت بالوطن والمصير حتى النصف الثاني من علم 1979. وهرم العسكر العراقي مبكرا حد الإصابة بالشلل بعثيا عندما أستبدل الضبط العسكري بالانضباط الحزبي، وحورت المهام من الدفاع عن الوطن إلى التخريب العمدي للوطن، واحتكرت العشيرة قياداته العليا، وأستوزر لوزارته"الدفاع" ضابط صف من أبناء العمومة، وسكت قادته عن التدخل الفني في شؤونهم، بل تملقوا القائد الأعلى ومنحوه أعلى الرتب والأنواط ، وأشادوا بحكمته في دخول الحروب والخروج منها بخسارة تلو الأخرى حتى بداية عام 1991. ومات هذا العسكر، أو قتلَ دوليا، عندما أمر الحلفاء بحل وحداته وقياداته والسماح لمن لم يدرك أهمية العسكر للوطن باستباحة معسكراته، وكذلك نهب أسلحته ومعداته، وعدم البت بمصير منتسبيه وتراثه، فكان اليوم 9/4/2003 الذي سجل التاريخ نهاية الظلم والديكتاتورية قد سجل بكل أسف النهاية المأساوية لعسكر زاد عمره عن الثمانين عاما وإن كان مشلولا.
لقد عاودت بعض أحداث التاريخ فيما يتعلق بالعسكر العراقي الظهور ثانية، فالحاجة لوجودهم من أجل المساهمة في ضبط الأمن ما بعد التغيير كما هي حال العراق بعد ثورة العشرين قد تكررت وتقرر تشكيل العسكر، والعامل الأجنبي في الموضوع موجود ما بعد التغيير كما هو الحال بداية عشرينات القرن الماضي، فاصدر هو أمر بتشكيل العسكر، والدولة آنذاك مشغولة بكيفية توليف الحكومة تبعا للتركيبة الاجتماعية للعراق التي تركت للغير أمر العسكر، كما حصل للدولة ما بعد التغيير عندما أستنفر القوم لتوليف مجلس الحكم وعدم الالتفات إلى شؤون العسكر. لكن الفروق بين ما كان في أيام زمان ووقتنا الراهن هو أن الضباط العراقيين الذي أخذوا على عاتقهم تشكيل الجيش في العشرينات قد اختيروا بدقة، وقد تحملوا كامل المسئولية، وتصرفوا بالمنظور الذي يحدد حاجة العراق للدفاع عن نفسه وضبط الأمن الداخلي وبدوافع الوطنية، وتوجهوا إلى العمل الجاد من نقطة الصفر فحددوا أصول للتطوع والتجنيد وشكلوا دوائر ومديريات وأعدوا خططا للتدريب والتجهيز، ووضعوا ضوابط للترقية وحسموا موضوع العقاب، وأوجدوا قيما ومعايرا لعسكرية يحترمها الأبناء ويعدوها أحد معايير الوطنية قبل إصابتها بالشيخوخة، بينما اندفع الآلاف من بقايا العسكر بهوس الرشوة ليقبلوا في الجيش الجديد، فحملوا بالتحاقهم بذرة الفساد والإفساد، دون أن يعرفوا النقطة التي سيبدأوا منها وهم في حيرة من أمرهم بين الموروث وحاجة الحاضر، بين السلاح القديم والسلاح المطلوب تجهيزه، بين الحاجة السريعة إلى التدريب على السلاح وبعض مفردات التعبية الصغرى، وتجاوز التدريب على الضبط، وتعزيز المعنويات، وسمو الرفعة الوطنية وزيادة الثقة بالنفس، فأوجدوا بالمحصلة عسكرا ليس كالعسكر، وبولادة متعسرة قد لا تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار المطلوب داخليا ولا تحقق الردع المتوازن مع الجيران والقريبين خارجيا .
د. سعد العبيدي 17/12/2004