من طبيعة الإنسان السوي في عموم المجتمعات البشرية أن يقارن حاله وما يحيط به من أحوال بما كان عليه في السابق بين الحين والآخر، أو عند مواجهة المواقف الصعبة، مقارنة إيجابية يفتش من خلالها في ذاكرته بين أكوام المكبوتات عن أحداث ترجح كفة الحاضر أو مواضيع تبرر أفضلية الماضي أملا في الحصول على جرعة نفسية تديم المعنويات وتحافظ على التوازن. ومن طبيعة الإنسان أيضا أن يقارن وضعه الحالي وكذلك ما يحيط به من ظروف بما سبق عندما يستمر في العيش لفترة طويلة تحت الضغوط الشديدة، مقارنة سلبية ينبش من خلالها في ذاكرة الماضي، يستجلب من بين وقائعه تلك الأحداث، والممارسات، والذكريات الايجابية، ويضع في مواجهتها بنفس الوقت مشاكل وعراقيل، واساليب تعامل الحاضر وهناته السلبية، دون أن يحاول المرور على التبرير كآلية نفسية تعمل على التخفيف من شدة الضغوط وتعيد التوازن. هكذا هو الحال لكثير من الذين يعيشون ظروف الشدة والتوتر في كل بقاع العالم، وهكذا هي مساعيهم في استجلاب الأبيض من الماضي وغلقهم الطريق على تبرير الأسود من الحاضر، وكأنهم في هذه المساعي يندفعون إلى تطويق حالتهم النفسية بطوق اليأس أو الاكتئاب، وهكذا هي حال كثير من العراقيين في وقتنا الراهن باتوا يمنون أنفسهم بذكريات الماضي في التجوال بشوارع بغداد بعد الساعة الثامنة مساءً دون التعرض إلى التسليب، والسفر بين المحافضات بسيارتهم الخاصة دون مواجهة القتل أو الاختطاف، والتنقل بين ضفتي دجلة بلا سدود كونكريتية، والنوم على السطوح بلا أصوات للانفجارات، والذهاب إلى الدوام الرسمي والعودة منه بلا آهات، والمشي في شارعي النهر وأبي نؤاس بعيدا عن الدبابات، وغيرها الكثير من الذكريات أو المقارنات التي يندر أن ينهي موضوعها أحد بتحميل مسئولية غياب معالمها منطقيا على النظام السابق كنوع من التبرير الذي يخفف من شدة الضغوط. 

إن المشكلة في المجتمعات التي تعاني استمرار الضغوط وتعميم المقارنة السلبية كما في العراق ليس في التعطيل المجرد لآلية التبرير، بل وما يؤديه هذا التعطيل من هبوط للمعنويات العامة، وتدني مستوى الأداء، والبقاء في وضع الفرجة، والميل إلى إرتكاب فعل الخطأ المضاد للدولة والمجتمع، أو عدم الميل إلى تجنبه، والمشكلة أيضا فيما يتسببه هذا التعطيل من تحول تدريجي لاتجاهات الناس من التأييد غير المشروط للحكم القائم إلى الترحم غير المحدود على الحكم السابق وما يتبعه من إرهاصات. والمشكلة الأكبر من كليهما عدم التنبه من قبل المعنيين بالحكومة الحالية لما يجري وما آلت إليه الحال النفسي ومخاطر هبوط المعنويات. ومع ذلك فالأمر لم يصل إلى النهاية المفزعة أو الطريق المسدود رغم مؤشرات الخطر المحتمل التي يمكن أن تنجم عنه إذ ما تنبهت الحكومة إلى تعقيدات الواقع ومصاعبه وخصصت من جهدها بعضه للتعامل مع إنسانية الانسان العراقي، وحاولت التقرب منه في البيت والشارع والوظيفة، وإذا ما أدركت أن القفز على مشاعره والآخرين معه سيبعدهم عن المشاركة معها في تحمل المسئولية وإن رقص البعض في ساحاتها، أو صفقوا لبعض قادتها، وإذا ما عَدُلتْ أو ساوت في النظرة إليه ومن معه بعيدا عن الأفضلية الحزبية، والقومية، والمذهبية، وأخذت بنظر الاعتبار أن أكوام الخطأ التي تجمعت في النفس العراقية كأساس لعملية المقارنة بين حاضرها وزمن صدام لا يمكن إزالتها والدفع باتجاه عودة المعنويات إلى مستوياتها الطبيعية إلا من خلال الاعتراف بالخطأ خطوة أولى تليها مباشرة خطوات حثيثة لتغيير جذري في أساليب إدارة الدولة والمجتع قبل فوات الأوان.


د. سعد العبيدي                                                                 27/8/2004