إنه فيصل الأول، الملك المعظم، والقائد الميداني للثورة العربية التي أنطلقت من الحجاز، والإنسان الحالم بدولة الوحدة المتمدنة من المحيط إلى الخليج، أختزل حلمه الكبير بدولة حديثة في العراق بايعه أهلها وأقاموا له تمثالا ، هرولوا نحوه في هستيريا تموز الدموي، وأسقطوه وسط الفوضى والزحام، فغاب عن التاريخ العراقي ولو مؤقتا أحد أعلى التماثيل.
ومن بعد عبد الكريم قاسم بصفاته المتعددة التي أطلقها العراقيون زعيما أوحدا، وعبقريا منقذا، قاد مجموعة عسكر في الرابع عشر من تموز، أرست أولى قواعد الذبح الهستري خارج أطر القانون، وأخرجت من داخل المكبوت رغبات البداوة في التدمير المنظم لأعمدة الدولة والمجتمع، حاول جاهدا أن يكون نصيرا للعمال والفلاحين، فأنشدوا له أملا في الخلاص من الفقر والضياع، وسعيا إلى الدولة التي يحكموا فيها بقوة البندقية وهستيريا الجمهور، وأوحوا إلى الملايين أن صورته مرسومة على القمر بقدرة رب العالمين، وأقاموا له أكثر من تمثال، أسقطه دعاة ثوريون، وأشتراكيون لبراليون، وقوميون وحدويون، بنفس طريقته في التغير وأسقاط أول تمثال، فغاب عن تارخ العراق ولو مؤقتا أحد أشهر التمائيل.
ومن ثم أحمد حسن البكر، ذلك البعثي الذي أقر أصحابه بعد 1968 أنه أضعف من ان يعتلي عرش العراق، وإنه أقرب إلى العشيرة منه إلى المدنية التي يسعون إلى إقامتها نظريا، وإلى الطائفة منه إلى الوطنية التي يودون تجسيدها ولو نظريا، ورغم تلك القناعة لهم، ولعموم العراقيين فقد أقاموا له تمثالا أرادوا له أن يكون فاتحة عهد لآلاف التماثيل، أسقطه عراقيون وإن لم يعيروا يوما أي إهتمام لوجوده واقفا مع مدخل المنصور، فغاب عن تاريخ العراق أحد اضعف اتماثيل.
ومن بعد ذلك صدام حسين، الامبراطور والملك، والقائد الضرورة، وأكثر من خطط للخلود عن طريق النُصب والتماثيل، صفق له الملاين، ورقص في حضرته شيوخ عشائر ميمونيين، وعسكر من صفوف القادة المعروفين، خلعوا غطاء الرأس ودبكوا على مسرحه المشهور، وأطباء سجلوا أسمه على مخترعاتهمم من أدوية ومعدات، وفنانون طالبوا بإطلاق تمثال له في السماء من ذهب وأموال التبرعات، ومهندسون تفننوا في المعمار تأكيدا لخلوده والبقاء، واساتذة جامعيون كتبوا آلاف الرسائل عنه أو أهدوها له تعزيزا لخلوده والوجود، وتجار وصناعيون تبرعوا له بملايين الدولارات، وبآلاف الجداريات والتماثيل، وعجائز فقدت أولادها في حروبه الخاسرة تمنت بمقابلته أن يأخذ المزيد، حتى أعتقد انه الأقوى والأجدر والأخلص، والأفهم، والأوفر حضا في الخلود، وبدفع منه ورمزية الصنم في عقول المذكورين شيدت له أكبر التماثيل التي تهاوت بنفس الطريقة التي سبقتها يوم السقوط، فغاب أو سيغيب في الغالب عن تاريخ العراق وإلى الأبد أعتى التماثيل.
ويعادالمشهد من جديد فيتجمع في 14 تموز الحالي ساعون إلى إقامة تمثال إلى عبد الكريم قاسم مكان تمثال الغريري، في سعي منهم إلى إعادته إلى التاريخ في ظروف لا يمكن تفسيرها إلا على أن الصراع على أرض العراق ما زال مستعرا بين الواقع والخيال، بين العقلانية والانتهازية، بين الماضي والحاضر، بين الساعين إلى العمل والبناء من جهة والغارقين في وهم التصفيق من جهة أخرى، وإن إمتدادات الوثنية وعبادة الأصنام في الذات العراقية لم تمحى من الذاكرة البعيدة رغم تحريمها البين منذ البدايات الأولى للإسلام.
د. سعد العبيدي 12/7/2005