تبدأ الأمم والشعوب، وكذلك الدول والحكومات، وحتى الأحزاب والحركات السياسية مرحلة صبا ثم شباب، ومن بعدهما الشيخوخة فالموت، حقيقة اجتماعية اشتركت وما زالت تشترك بها المجتمعات البشرية، وإن اختلفت فيما بينها من حيث الزمن الذي يحكم المرحلة طولا أو قصرا تبعا إلى دوافع الاستمرار على البقاء أو التعجيل بالفناء، وكفاية الأداء في تأمين مستلزمات الأول أي الاستمرار أو فشله في مجالها الأمر الذي يعجل بالموت أي الفناء، ولو حاولنا تعميم هذه الحقيقة على مجتمعنا العراقي في مجال الدولة، ونظام الحكم لوجدنا بما لا يقبل الشك أن هذه الدولة التي شاخت مبكرا تواجه احتمالات الموت بسبب عدم كفاية الأداء المتاح بالوقت الحاضر لإنعاشها أو إعطائها الجرع المناسبة للبقاء، والأدلة على هذا الاستنتاج كثيرة، ومتعددة لا مجال إلى تناول إلا القليل منها مثل العيش في دوامة الانشغال غير المنتج وفيه نجد أن الجميع منشغلون، وإن اختلفت طبيعة الانشغال:
بين من دفعته معالم النضال ليكون في أعلى مصافي القرار الذي يستنزف جل وقته بالتفكير، والعمل على الخروج من أزمة، أو تفادي الوقوع في أخرى، أو التفتيش بين الخبرات المكبوتة والأفكار المزاحة عن ما يسعف الحال لتوسيع هامش المنفعة الذاتية والحزبية، وانشغاله بهذه الطريقة لا تفسح له المجال لأن يعطي الدولة ما تريده، ولا تسمح له بتطوير أداءه بما يتناسب وحاجتها إلى إعادة البناء وتفادي احتمالات الموت.
وبين من ألزمته الأقدار ليكون عاطل في أسفل التدرج الاجتماعي الذي يقحمه قسرا في دوامة السعي إلى الحصول على عمل خارج المحاصصة الطائفية والحزبية، أو الحلم ببيت وعائلة وأطفال مثل كل المناضلين، أو التفتيش كل الوقت عن وسيلة تديم البقاء، وعن بقايا تسد الرمق من أجل البقاء، وانشغال من هذا النوع لا يدفع المنشغلين إلى التوجه للمساهمة في الترميم وإعادة البناء بعيدا عن احتمالات الموت في غرف الإنعاش، بل وعلى العكس من ذلك قد يولد بعض مشاعر العدوان في داخلهم نحو أولئك المنشغلين في الأعلى يمكن أن تحرك الكثيرين باتجاه المساهمة بالتعجيل في عمليات الهدم وليس البناء.
وأدلة أخرى مثل الشعور باليأس والإحباط العام، فهي عند الأعلى تكونت إثر عدم قدرته على التعلم السريع واكتساب الخبرات اللازمة للعلاج أو حتى حسم الموقف لصالحه والاطمئنان على مستقبل كتلته أو حزبه، ومن خلاله مستقبل الدولة والحكم، ويأس في حالته يستنزف جل طاقته النفسية، المطلوب حشدها والاحتياطي المتاح منها لتوفير قدر من الأداء يتناسب والحاجة إلى البناء أي الحيلولة دون الموت، وأي أداء دون توفر قدر كاف من الطاقة النفسية سوف لن يتوقف تأثيره السلبي عند عدم الإسهام الجاد في البناء، وإنما سيعجل حتما بالهدم في ظروف التوتر وعدم الاستقرار.
وهي "مشاعر اليأس" عند المستويات الوسطى، والدنيا قد تكونت إثر الفشل في تأمين حياة أفضل، والتخبط في الانتقال من الحياة المقيدة إلى الأخرى الحرة، وإثر الصراع في المقارنة بين الحاضر والماضي. ويأس عند هذه الطبقات وبمستوى عال من الشدة سيمنعهم من المشاركة في إعادة البناء وهم الأيدي العاملة له، وربما سيدفعهم إلى الامتناع عن دعم وإسناد من يريد البناء في الظروف الصعبة.
وأدلة أخرى تتعلق بعدم وجود فلسفة واضحة لإدارة الدولة والمجتمع، والرغبة في توسيع هامش الربح المتاح، وعدم الاقتناع بوجود قدر من الخسارة، وتصدع المشاعر الوطنية، والمحاباة في التعامل مع الخطأ وتحمل المسئولية، وأخرى غيرها تؤشر أن دولة العراق قد نقلت بالفعل إلى غرفة الإنعاش، وإن موتها ممكن إذا ما بقيت هذه الأدلة ماثلة للعيان.
د. سعد العبيدي 31/7/2005