نشأت الكثير من مفردات الحضارة ومعالم التكنولوجيا وأنواع السلوك وتطورت من خلال الخطوات المتتالية التي خطتها البشرية إلى الأمام، وجاءت تلك الخطوات في معظمها إثر النضج والإدراك الفعلي للحاجة اللتان تسهمان من جانبيهما في دفع مجتمع معين لهضم مرحلة آنية والتهيؤ أو الاستعداد لمتطلبات مرحلة مقبلة، وهذا في مجمله أسماه العلماء والباحثين بعملية الحراك الاجتماعي، وعلى أساسه كنا نرى على سبيل المثال في عصر الثورة الصناعية في أوربا أن الآلة التي كان البريطانيون يخترعونها كان الفرنسيون يفكرون باختراعها أو هم في الطريق لاختراع شبيهة لها، والقنبلة الذرية والصواريخ والمحركات النفاثة التي سعى الألمان لاختراعها واستخدامها في الحرب العالمية الثانية كان البريطانيون والأمريكان "أصحاب الحضارة المتشابهة" يجرون البحوث والتجارب في مجالها، وما ينطبق على المسائل المادية يمكن تعميمه على الجوانب الاجتماعية والسلوكية فالعلمانية وإبعاد الكنيسة عن التدخل في السياسة على سبيل المثال لم تكن حكرا على الفرنسيين بل شملت أوربا وبلدان أخرى آمنت بها ونهجت على أساسها بالتدريج بعد أن نضج إنسان مجتمعها في مجالي الدين والسياسة وأدرك بقناعة أن تقدمه إلى الأمام يتحقق فقط عندما يكون التدين مسألة تتعلق بشخصه، وأن تكون الدولة وسياستها العامة بعيدة عن تدخل غير المعنيين، وهكذا الحال بالنسبة إلى الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان وغيرها أمور أخرى تأمنت بمستويات تكاد تكون متقاربة في عموم تلك المجتمعات التي تعيش حضارة واحدة أو مفردات حضارات متقاربة بسبب ما وصف بالحراك الاجتماعي. وهو الموضوع الذي نود أن نتخذه معيارا للحكم على مسألة الانتقال إلى الديمقراطية في العراق الحالي التي نادت بها الأحزاب والحركات السياسية والشخصيات المستقلة قبل التغيير وما زالت تدرجها في أعلى أولوياتها وأدبياتها كأحد الحلول المناسبة لأزمته الحالية، وفي مجاله وللحكم على إمكانية أو سهولة الانتقال من عدمه علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أهم مقومات الحراك الاجتماعي وهما النضج والاستعداد للتعامل الديمقراطي سلوكيا، وفي موضوعه لا نعتقد أن العموم من أبناء هذه الحضارة قادرين على التنازل ديمقراطيا عن ذاتيتهم المتضخمة لصالح الغير وإن كانت في عداد الأغلبية، وغير قادرين أيضا على التعامل ديمقراطيا حتى هذه اللحظة مع الزوجة المتحررة، والابنة المراهقة، والموظف الأدنى، والطالب المختل، والزحام في الشارع، وفي الحقوق، والمسئوليات، ولا نعتقد كذلك أن من السياسيين الداعين إلى الديمقراطية " مع بعض الاستثناءات القليلة جدا"من يستطيع أن يتعامل ديمقراطيا مع الرفض المحتمل لانتخابه أمينا عاما للمرة العاشرة، أو التفكير بالاستقالة ديمقراطيا عندما يفشل في موضوع سياسي يتعلق بالعمل الوظيفي أو الحزبي، وهذا واقع أو مستوى لم يكن حكرا على المجتمع العراقي بسبب ظروفه غير الطبيعية منذ أكثر من نصف قرن من الزمان بل ويشمل عموم الحضارة العربية والإسلامية الحالية التي تتشابه كثيرا في النظرة إلى الحكم والتعامل مع الإنسان كأحد أهم أعمدة الديمقراطية. وعلى هذا الأساس يمكن الاستنتاج أن مستوى النضج والاستعداد "الحراك الاجتماعي"لتقبل الديمقراطية لم يكن كافيا في وقتنا الراهن إلى الدفع باتجاه تقبلها أي الديمقراطية تلقائيا وبما ينسجم ومتطلبات عصر لم تدخله حضارة المنطقة بعد، وعلى وفقه سوف لن يكون الانتقال إلى الديمقراطية في العراق سهلا كما يتأمل البعض، وسوف لن تكون الانتخابات المقبلة الفيصل في موضوع الديمقراطية وإن كانت الخطوة الأولى على طريقها الطويل.
إن الديمقراطية التي عمت المجتمعات الغربية وأخرى غيرها عن طريق الحراك الاجتماعي سوف تحتاج في مجتمعنا وبسببه الكثير من الوقت والمزيد من الثمن لتكون حقيقة يقبلها الغالبية تلقائيا ويسلكون على أساسها، وبعكسه فأمر تحقيقها سيكون فقط بفرضها من الأعلى بقوة الحكم إذا ما توفر قادة ومصلحين غير تقليدين، وإذا ما توفرت نوايا طيبة لكل أطراف الأزمة من عراقيين وغير عراقيين.
د. سعد العبيدي 14/1/2005