ان مؤشرات السلوك العام للانسان العراقي تبين انه قد اصيب بالتيه الفكري. نوع من التيه انتقل من الفرد إلى الجماعة، ومنها الى المؤسسة الاعلى في السياسة، التي يسعى بعض دعاتها الى التفريق بحجج الرغبة بالتوحيد، وانتقل ايضا الى الجماعة الاصغر في العشيرة التي يتجه افرادها الى التفتيت بقصد التجميع، وكذلك في الطائفة المبنية على رؤيا التفتيت بقصد الإصلاح والتصويب.

انه تيه مخيب للآمال، ومخل بإنسانية الإنسان العراقي وحقه في العيش الآمن، ومنتهك لروح الالفة الجماعية التي يفترض ان تكون موجودة عامود من أعمدة أمنه النفسي.

تيه اصبح شكل نظام الحكم الذي يحس انه الانسب، والاجهزة الامنية التي تغالي بفرض العنف أسلوب لتعاملها، هما المسؤولان أولا وأخيرا عن حصوله في كل الازمنة والعهود، حتى ان الدولة في ثمانينات القرن الماضي يوم ادركت تأثير بعض جوانبه على وحدة المجتمع، وحاولت التدخل من جانبها لترميم الخلل الحاصل، جاءت محاولتها من رحم القسرية في الادارة، والاساليب الفوقية في تقديم الرشا للمتنفذين والحزبيين والشيوخ الانتهازيين، فتكون بنتيجة عملها هذا سلطات أمنية مضافة تعاقب من يخالف التوجهات العامة لسلطة الحكومة من ابنائها والتجسس على افرادها، فزاد التيه شدة، وفقدت الجماعة الاضغر أحد أهم مقومات تماسكها ومعايير قيادتها الاعتبارية، بعيداً عن روح التفاني من أجل الوجود الآمن لها ولمجتمعها الاوسع.

وهو تيه تسبب نفسيا في اضطراب القيم والمعايير ، اذ اننا نرى على سبيل المثال، انه وعلى الرغم من العودة الى العشيرة، جماعة تفتيت اصغر من الوطن كجماعة اكبر، فانها عودة كانت موقفية قلقة، لجأ اليها الابناء من اجل الحماية من اعتداء الغير في العشائر الاخرى او الاستقواء بها في الاعتداء على الغير من ابناء العشائر الاخرى، عودة لم تعيدها عمليا الى سابق العهد سلطة ضبط وتوجيه ايجابي لسلوك ابنائها، بل حولتها الى سلطة امنية سياسية انتهازية، يتدافع شيخها مع المتدافعين ليجد له مكانا على موائد السلطات الامنية والسياسة، يسعى الى الفتات والمصالح الذاتية.

وتسبب كذلك في التقليل من التكافل، والتعاون والالتزام، حتى يلاحظ على السلوك العام في العقود الاربعة الاخيرة أن البعض يدعي التدين، وينادي بتطبيق الشريعة الاسلامية، وفي واقعه غير قادر على القيام بما يلزمه الدين بتطبيقه، والكثير تنادي بالوطنية، وتقف على التل تتفرج، وتنتظر من الغير مسعى التدخل لصالح الوطن، أو فاقدة للمبادرة تريد المحافظة على الوضع الراهن، لان تغييره يحتاج الى الحركة التي يعجزون عن ادائها.

بسبب هذا التيه وأمور اخرى تتعلق بالادارة والامن انفتحت مجالات الوعي الجمعي واسعة للإيماء والتقليد والخدر والركون للأمر الواقع، منتجة خضوع مهين للاعلى في سلطة الدولة، ورغبة في التخلص منه، اصابت العقل الجمعي بطعنة حطمت الصورة الايجابية عن الذات وهزت الثقة بالنفس، فكان تيها بالمعنى النفسي افقد الانسان العراقي الاحساس بطعم الحياة، وقيد حركته، وسيستمر بتقييدها الى سنوات أخرى حتى يأتي القادر فعلا على اخراجه من حالته التي لا تسر غريبا ولا قريب.


                                                                            د. سعد العبيدي

                                                                            13/6/2012