غرق العراقيون في وحل الديكتاتورية، والرأي الواحد، والإعلام الموجه أكثر من نصف قرن من الزمان كانت العقود الثلاثة الأخيرة هي الأقسى، وثمن السكوت الجمعي المدفوع خلالها ثلاثة حروب قاسية مع الغير، وأخرى داخلية أكثر قساوة وتدمير بالضد من أبناء الوطن الراغبين بالحرية وضمان الحقوق، والمنتفضين ضد الظلم والطغيان.

ووقف العراقيون في غالبيتهم ضد الدكتاتور في حربه الأخيرة عام 2003، وبقي بعضهم واقفا على التل متفرجا ومنتظرا ما ستئول إليه الأمور، وأعتقد البعض الآخر  بضرورة استثمار الموقف أي ظروف الحرب من أجل توفير فرص أفضل لتحقيق الحرية والديمقراطية اعتقادا بالتقاء المصالح وسنوح الفرصة الوحيدة للتخلص من الظلم، والاستعباد واضعين جميعا نصب أعينهم أو متأملين مستقبل أفضل، وحرية أوسع، وكرامة أحسن، وأمان أشمل من ناحية مدفوعين في مواقفهم وآرائهم من ناحية أخرى بويلات التقييد الأعمى لحرية الرأي والتعبير لعشرات السنيين، دون أن يضعوا في حسابهم أن الطريق إليها أي الحرية لم يكن سهلا، ولم يكن ثمنه أقل مما دفعوه لأيام الدكتاتورية والاستعباد.  

ومع ذلك فإن آلاف الشهداء، والمشردين، والنكوص الحضاري الثمن المدفوع من أجل الحرية بات حقيقية قد يقتنع البعض من المتفائلين أنها الوسيلة الوحيدة للتخلص من آثار العبودية وتحقيق الحرية كما حصل للعديد من شعوب العالم الآخر، وقد يقتنع البعض الآخر بأن الأرواح البريئة التي تزهق يوميا في مرحلة الانتقال إلى الحرية مشعل ينير الطريق إلى التمتع الفاعل بمعطياتها الإنسانية كما حصل إلى الكثير من دول العالم الآخر خاصة عندما يضع المتأملون في الاعتبار ذلك المتحقق من الخطوات السياسة للانتقال إلى الديمقراطية بينها إقرار الدستور، وحصول الانتخاب، ووجود البرلمان، والانفتاح على العالم الآخر، وعندما يرصدوا سلوك بعض السياسيين الوطنيين في الحكومة الحالية الذين يجاهدون من أجل التخلص من آثار الكارثة وتقليل نسب الخسائر المدفوعة ثمنا للانتقال.

لكن الذي لا يمكن أن يقتنع به المتفائلون والمتشائمون، والوسط الواقفون على التل، والرواد والمؤيدون الذين يدفعون جميعا ثمن الحصول على الحرية هي تلك المحاولات التي تحصل بين الحين والآخر لإعاقة الحصول عليها، والرغبة اللاشعورية في العودة إلى سابق العهد في إتباع الرأي الواحد وتكميم الأفواه، وغلق المنافذ الإعلامية غير المسيسة، والتهديد بفرض العقاب على من يحاول الخروج عن الصف خاصة عندما تأتي من مشرع القوانين التي ترسي قواعد الديمقراطية وتمهد للتمتع بالحرية، ومن الرقيب الذي يرصد أخطاء الحكومة وتجاوزات المسئولين في ظروف صعبة تكثر فيها الأخطاء، والتجاوزات كما حصل أخيرا في التغطية الإعلامية لإقرار قانون الأقاليم الذي تعالت بعض الأصوات من قبة البرلمان لمعاقبة فضائية مثل الشرقية وجريدة مثل الزمان لمجرد الاجتهاد في نقل جزء من الحقيقة والتي تشكل سابقة تستحق الوقوف عندها من قبل عموم العراقيين في مسعى ينبغي أن يكون بالضد من اتجاهات العودة إلى الماضي، ومن قبل الحكومة الحالية التي عرفت بالعقلنة في محاولة لعدم التأثر بالمواقف الفردية، وكذلك من قبل الإعلام الذي ينبغي أن يستمر في جهاده من أجل البقاء في مقدمة الداعيين إلى الحرية، وبعكسه سيكون السكوت خطوة أولى لفرض الرأي الواحد بغلاف ديمقراطي قد يعيد العراق إلى نقطة الصفر، ويبدد دم الشهداء في غير طريق الحرية الذي تأملوه كثيرا قبل استشهادهم.

د. سعد العبيدي                                  17/10/2006