غريب هذا العالم الذي نحن فيه، وغريب سلوك البعض منا عندما تسنح الفرصة له أن يكون في المنصب مسئولا ولو عن حزب من عدة أشخاص، يفكر فقط بكيفية أستخدام سلطته لتطبيق ما يؤمن به وليذهب الآخرون الجالسون جنبه في المجالس واللجان إلى الجحيم، يسعى فقط لتوسيع نفوذه بين الناس، يُكبر من ذاته، ويصغر من ذوات الآخرين الموجودين حوله وإن ذهبوا إلى الجحيم، كأنه باق في مكانه إلى الأبد، وكأن حزبه لا يتزحزح من مكانه في النظام الديمقراطي الذي يحاول تعزيزه وريثا لديكتاتورية صدام. والأغرب من هذا وذاك ما حصل من بعض المسئولين المتنفذين في محافظة بابل بمنعهم فعاليات مهرجان أخذ اسم مدينتهم خاصة ما يتعلق منه بالموسيقى والغناء، الأمر الذي يثير من حولهم عديد من أوجه الاستغراب، ومئات العلامات الفارقة للاستفهام، ويدفع الباقين من أهل المحافظة وعموم العراقيين أن يسألوا عن الديمقراطية التي يريدون تطبيقها هؤلاء المانعين، هل هي الديمقراطية التسلطية كتلك التي أنتهجتها طالبان منعا لكل معالم الحضارة وقتل للذات الانسانية؟.
وإن كان الأمر كذلك او قريب منه عليهم أن يهدموا بابل كما هدمها أو حاول هدمها من قبل محافظهم الأسبق هاشم حسن المجيد، وعليهم أن يمنعوا الانترنت لأن فيه الكثير من البذاءات الأخلاقية، والعديد من الكتابات السياسية التي تمس ديمقراطيتهم وتتطاول أحيانا على المذهب والدين، وأن يمنعوا نصب الصحون اللاقطة لأنها تسحب فضائيات بعضها يسمم الأفكار، وبعضها يبشر بالمسيحية، وبعضها الآخر يبث الشذوذ والجنس الرخيص، دون أن ينسوا منع الحواسيب لأن المواقع المنتشرة والأقراص المدمجة مواضيعها حول العلاقات الحميمة والذبح والارهاب والرقص ما يفسد الشيب والشباب، وكذلك الهاتف المحمول، فرسائله محرضة، ومواعيده مفسدة، وأستخداماته للتفجير مدمرة، ويمنعوا، ويزيدوا ويمعنوا في المنع مثل غيرهم من المتطرفين، حتى يصلوا بمنعهم مثل ما وصلت إليه طالبان، حدا أتهمت فيه أداة تخريب وهدم للاسلام. غريبة هذه الأفكار والقرارات من أهل بابل بالذات، هذه المدينة التي أشتهرت عبر تاريخها بإلاعتدال والتوازن حتى أنجبت من رحمها كبار علماء الدين، وخيرة الشعراء والمفكرين، وغريبة هي الديمقراطية التي يفسرها بعض أهل بابل قمعا لأفكار الغير ومشاعرهم وأهوائهم وفنونهم، دون أن يتذكروا أنهم لولا الديمقراطية التي تعني حرية الرأي والتعبير والاعتقاد لما كانوا قد وصلوا إلى أماكن نفوذهم التي أهلتهم أن يمنعوا بعض فعاليات مهرجان دولي تنظمه السلطة المركزية سعيا منها في أن يسهم مع فعاليات أخرى في تهدءة التوتر وأقناع العالم بهامش الاستقرار الذي حصل والذي يمكن أن يحصل وسيلة من بين وسائل إقناعه، بمساعدة البلاد في الدعم والاستثمار التي تنادي به المحافظة مثل باقي المحافظات.
ألم يشعر بالحرج ديمقراطيو بابل الذين تسببوا في هذا الأمر، وكيف لهم أن يقفوا أمام فرقة دنماركية ستعود إلى بلدها وتقول للمستثمرين الاوربيين الذين يودون المجيئ إلى بابل أو العراق، إن أهله تصرفوا معها بطريقة لم تسمع عنها إلا في حكم طالبان التي وضعها العالم خارج حضارته القائمة، ولم تتوقعها من قوم كان أجدادهم قد حققوا أعظم الانجازات الحضارية، وفي ليالي مدنهم كانت تصدع الموسيقى، وتغنى أجمل الأغنيات.
إن الأمر لا يستقيم هكذا، وستخسر بابل فرص لتحسين مستويات عيش أبنائها من السياحة الآثارية، إذا ما أستمرت هكذا، لأنها محافظة فقيرة لا نفط فيها ولا عتبات تزار، ولا زراعة يزحف عليها التصحر باستمرار. وما يريده البعض لا يحصل بالتطرف في الرأي والاعتقاد ومحاولة فرضه بقوة السلاح أو النفوذ، لأن السير على هداه سيدمر أصحابه ويعزلهم عن الركب عاجلا أم آجلا، لأنه أي التطرف الذي يلجأ أصحابه إلى هكذا تطبيقات في المنع والتحريم، سيفتش عن منافذ له لتعزيز عظمته ليس في الموسيقى والغناء بل وفي كل معالم الحياة، وسيجد أصحابه المتطرفون يوما أنهم قد أصبحوا أدواة هدم للإسلام كما أصبحت القاعدة وطالبان، وسيكونون في خندق ضيق بمواجهة نفس العالم الذي جلب لهم ديمقراطية أوصلتهم إلى كراسي المسئولية، ولم يصونوا تطبيقاتها الصحيحة، عندهها سيصحون من غفوتهم، ولا فائدة من صحوةٍ، بعد فوات الأوان.
د. سعد العبيدي 6/10/2010