ترتفع أصوات في وقتنا الراهن من بين المسئولين الحكوميين، ومن بين الأهالي، والمثقفين، والمختصين منادية بفرض الأحكام العرفية على عموم مناطق العراق، أو على إحداها الأكثر اضطرابا، ودافعهم أو حجتهم في المناداة تتمحور حول الرغبة في التخلص من قلق التهديد الذي يسيطر عليهم طوال الوقت بسبب تردي حالة الأمن التي بدأت مستوياتها تتدنى بشكل ملموس في الأشهر الأخيرة، ولهم الحق في مناداتهم هذه. وفي نفس الوقت يؤكد آخرون بينهم مثقفين وأصحاب اختصاص على أن الحاجة الفعلية لضبط الأمن، والخروج من دوامة القلق لا تستوجب فرض الأحكام العرفية، وتأكيداتهم هذه أو خشيتهم تتأسس على الحساسية العالية التي يعاني منها العراقيون وأبناء المنطقة العرب والمسلمين من فرض الأحكام العرفية التي تفرض بسهولة وقد لا تلغى بالسهولة ذاتها، وعلى  تخوف من شكل الديمقراطية التي ستأتي من رحم الأحكام العرفية، وهم في تأكيداتهم محقين بعض الشيء .

وللحكم منطقيا بين هذين التوجهين ينبغي الإشارة إلى أن الذي لم يدركه المعنيين بالأمر الثاني أي الرافضين للأحكام العرفية حقيقة أن الديمقراطية سلوك يتم تعلمه عن طريق الممارسة والاختلاط وإشاعة الثقافة في ظروف عيش سلمية وإن تطبيقاتها لا تتحقق بالتمني، ولا تفرض بالأوامر والقرارات الصادرة من الأعلى، لأنها أسلوب في التعامل المتكافئ بين الناس أفرادا وجماعات، ونهج تفكير يدفع إلى تحقيق ذلك التعامل المتكافئ ، وهي على هذا الأساس أو تطبيقاتها الفعلية بحاجة إلى مجتمع مهيأ لتقبلها، وكان العراق إلى حد ما بعد التغيير ذلك المجتمع المعبئ نفسيا لقبول واقعها أسلوبا عصريا لإدارة الواقع المتعب، لكنه وبعد أن دخل العديد من أبناء هذا المجتمع في أتون الصراع بين متغيرات الأمن والاضطراب، وكذلك بين التخلف والتقدم إلى الأمام  تصدعت مقومات قبول الديمقراطية لمستوى فهمها السارق تسامحا في السرقة، وأدركها المخالف مجالا للتجاوز، وتصورها المحتج أساسا للقتال، وخبرها المسئول تقربا للعائلة والعشيرة، وهكذا تنامى الخلل في المفاهيم القيمية لإدارة الدولة والمجتمع واتسعت رقعة التجاوز باستخدام القوة المسلحة ضد  مؤسسات الدولة وأجهزة الضبط الاجتماعي التي تعد أعمدة أساسية للبناء الديمقراطي المنشود. وعلى هذا المستوى من التردي لم يتبق من الحلول المنطقية للتخلص من قلق التهديد، والإعادة إلى الصواب سوى الردع الشديد لأولئك الذين تصوروا، وفهموا، وأدركوا خطئا أن الديمقراطية مجال لتبرير أخطائهم، خاصة وإن المتاح بيد الحكومة في الوقت الحاضر من إمكانات لتأمين ردع نوعي بالضد من المخالف فقط أي بعيدا عن الطوارئ والأحكام العرفية لا يساوي في وزنه المادي والنفسي ما يمتلكه ذلك المخالف لتأكيد تبريراته في مجال الخطأ، لذا لم يتبق لها أي الحكومة من خيار سوى الانتقال من الردع النوعي"المكافحة التقليدية" إلى التفتيش عن ظروف قانونية واجتماعية لحشد جل قدراتها في عملية ردع شاملة، قوامها الأحكام العرفية. ومع ذلك وإن فرضت الأحكام العرفية بنسبة صواب نفترض عدم تجاوزها نسبة الخمسين بالمائة فإن أمام المجتمع العراقي والعائلة العراقية فرصة التصحيح من خلال الحث على اتباع السلوك الصحيح، وعدم إعاقة الأجهزة الضابطة لإعادة الاستقرار، والاحتجاج على الخطأ في التطبيق لكي لا تعطى الحجة إلى الحكومة في أن تستمتع بالنوم الهادئ ليلا في ظروف فرض الأحكام العرفية، وهو النوم الذي قد يسحبها إلى التمادي في إبقاء الحال على ما هو عليه كما هو حاصل في التجارب السابقة حتى نجد أنفسنا قد وضعنا بمواجهة البنادق وجدران السجون لعشرات أخرى من السنين نكتشف بعدها أننا قد أخطأنا يوم تصرفنا بطريقة أجبرت المسئولين عن شئوننا في أن يفرضوا الأحكام العرفية.    

25/6/2004