عجز الناس في بغداد من أن يُسمعوا أصواتهم المنادية بالحد من الكتل الكونكريتية التي خنقت شوارع العاصمة وأزقتها وكثير من الساحات العامة، وكاستجابة لأصواتهم المبحوحة، سارع المعنيون في الدوائر الحكومية وبعض المقرات العسكرية ومراكز الشرطة إلى نصب المزيد منها في منتصف الشوارع مؤكدين رغبتهم في القضم والتجاوز حتى على الشارع العام، لتزيد من بشاعة المناظر المفزعة، وتظاعف من الازدحام القاتل، وتعزز الحقد والنقمة في النفوس التي تعد جميعها من دعائم اللا استقرار. وعجز الحالمون في بغداد من أن يحولوا بكوابيس أحلامهم دون إصرار شرطي الحمايات الخاصة، وجندي الحرس الخاص على فتح الطريق بالرمي العشوائي لدوريته العادية، أو إلى موكب وكيل وزارته والمدير العام، أو إلى رتل ينقل مواد عادية إلى وزارته، وربما إلى مجموعته العائدة إلى البيت بعد أنتهاء ساعات الدوم الرسمي، وكأستجابة لأوامر وتوجيهات السادة وزيري الداخلية والدفاع بمنع الرمي العشوائي والاصرار على معاقبة المخالفين بادر الرماة المهرة إلى تغيير عتلة الرمي في بنادقهم الآلية من المفرد إلى الصلي ليزيدوا من كثافة النار، ويقللوا شدة القلق الذي يعيشونه، ويرفعوا في ذات الوقت خوف الآخرين من حولهم، وكذلك من استخفافهم، وعدوانيتهم التي تعد من مؤشرات أختلال الأمن والاضطراب. وعجز المتفائلون في بغداد عاصمة السلام من أن يمهدوا بتفاؤلهم أنسيابية الشوارع وتقليل الزحمة، وصفقوا كثيرا لقرارات الحكومة بتحديد سير المركبات فرديا وزوجيا، وبأوامر المرور في منع سير سيارات الحمل خلال ساعات الدوام، وبمحاسبة المخالفين وسائقي السيارت التي لا تحمل أرقام، وكاستجابة لرغبة الناس بتخفيف الهموم بقليل من التفاؤل ضاعف السياسيون، وموظفوا الدولة، وكذلك المعنيون بشؤون الأمن وحفظ النظام عدد سيارات الحماية من حولهم لتكون على شكل مواكب لا يكتف القائمون عليها باطلاق الصفارات المثيرة للازعاج، بل ويسارعوا إلى قطع الشوارع وإيقاف المرور، والسير في الاتجاه المعاكس، في منظر يصوب فيه منتسبوا الموكب عسكريون كانوا أو مدنيون أو منتسبوا شركة حماية أو مليشيا حزبية بنادقهم، ومسدساتهم إلى القريبين في الشارع، فأصبحوا بتصويبهم وصفارات سياراتهم، وزعيق بعضهم مصدر تهديد لكل المتفائلين وغير المتفائلين، والتهديد بطبيعته أشاعة للفوضى، وخرق للأمن العام. إن مشكلة الأمن في بغدادنا العزيزة، وباقي محافظات العراق ليست فقط بالأوامر الصادرة على الرغم من أهمية صدورها من أعلى سلطات للقرار الأمني والعسكري، بل وكذلك بطبيعة التنفيذ الذي يشهد خللا يتحمل مسئوليته آمر مباشر يتغاضى عن تجاوز رجل في معيته عل سبيل المثال، ويتحمل مسئوليته وكيل الوزارة الذي يسكت عن عملية قطع السير وغلق مداخل ومخارج الطريق الذي يسلكه، وعن عدد الاطلاقات النارية التي يطلقها أفراد حمايته منذ البداية حتى الوصول، ويتحمل المسئولية أيضا السياسي، والموظف الكبير في الحكومة الذي ينتعش بسير موكبه في الاتجاه المعاكس، وتتحمل المسئولية كذلك أمانة العاصمة التي لم تستطع حتى هذه اللحظة من بسط سيطرتها وفرض النظام على شوارعها وأزقتها وساحاتها المتعددة. ويتحمل المسئولية الأكبر في جميع الأحول البغداديون الذين يرسمون وحدهم مستقبل عاصمتهم وأمنها، بالتعاون، والالتزام، والنقد، والرفض الموجب، والانتخاب الصحيح للأصلح في تحمل المسئولية الوطنية. إن الأمن حاجة نفسية تقع في أعلى سلم الحاجات الإنسانية، لا يمكن الحصول عليها من خلال الإجراءات القسرية المتبعة في شوارعنا بالوقت الحاضر، بل وبالحد منها وإجراءات وقائية أساسها تنفيذ المعنيين لأوامر قادتهم، وفهم السياسيين لطبيعة مسئولياتهم وتقيدهم بالنظام، ومساهمة أهل بغداد وتعاونهم مع أجهزة الدولة، وسعيهم الحثيث لتحديد مستقبلهم في مجتمع ديمقراطي هم فيه القاسم المشترك الأعظم للضبط والنظام.

د. سعد العبيدي                                                   26/11/2005