يعتبر الوضع الذي ستكون عليه القوات المسلحة العراقية و عموم المؤسسة العسكرية بعد الإطاحة بنظام صدام , من القضايا الأساسية التي سيواجهها العراقيون في المرحلة الانتقالية بوجه خاص , ومرحلة الشروع بإقامة نظام ديمقراطي وترسيخه بوجه عام .
و تحظى هذه القضية الآن , مثلما ستحظى مستقبلا باهتمام كبير لدى النخبة السياسية والفكرية العراقية , لاسيما قوى المعارضة السياسية ( المدنية و العسكرية ) وقطاع واسع من العراقيين , وذلك فضلا عن اهتمام دول المنطقة , وخصوصا الدول المجاورة . وذلك نظرا لتأثيراتها الكبيرة على الوضع الداخلي العراقي وأوضاع تلك الدول في آن واحد.
وتوضع التساؤلات التالية , وتختصر ما تعنيه بمستقبل المؤسسة العراقية في العراق ما بعد صدام , والأشكال المحتملة لما سيجري عليها من تغييرات و تعديلات . ثم استقرار وضعها , والتساؤلات هي :
هل سيبقى الجيش و سائر صنوف القوات المسلحة بالوضع الذي وصل إليه خلال العقود الثلاثة الماضية , مع أجراء بعض التعديلات الشكلية أم أن الوضع الجديد سيتطلب إجراء تغييرات جوهرية ؟ وإذا ما تقرر الأخذ بهذا الخيار , فكيف سيعالج النظام الجديد , بمختلف مؤسساته المعنية الإشكالية , بكل تعقيداتها والتباساتها , في المرحلتين الانتقالية , والدائمة المستقرة بعد ذلك ؟ أي ما هي الرؤى و الأسس النظرية و العلمية التي ستقوم عليها تلك المعالجة المقترحة الأسئلة التي ستطرحها وهي :
كيف سيتم تجاوز و تصفية الآثار السلبية الكبيرة التي لحقت في عموم المؤسسة العسكرية وتشويه دورها ومهماتها وطبيعتها وخصوصا خلال العقود الثلاثة الأخيرة ؟
ـ كيف سيتم ترميم أو إعادة بناء المؤسسة العســـكرية بأســس ومنـــطلقات جــديدة تتجاوز المرحلة الماضية وتتوافق وتنسجم مع قيام نظام ديمقراطي وتستجيب لمتطلباته ؟
ـ كيف يعاد الدور المهني الرئيسي لسائر صنــوف القـــوات المسلحة وتحديد شكل العلاقات المناسبة مع مؤسسات الدول المعنية ؟
- كيف سيعاد النظر بمضمون وأساليب تثقيف الجيش وعموم القوات المسلحة ومن سيضعها ؟
- كيف سيعالج الخلل التاريخي في تركيبة الجيش والقوات المسلحة لإحداث توازن حقيقي يعكس مختلف تكوينات وفئات الشعب العراقي ؟
الواقع إن الإجابة على هذه التساؤلات لن تتم بتقديم وصفات أو إقتراحات محددة دون أخرى إنما ينبغي الأخذ في الاعتبار جملة من العوامل والظروف المؤثرة في ذلك حيث سيمر التوجه لمعالجة وضع المؤسسة العسكرية وإصلاحها بمرحلتين :
التوجه في المرحلة الأولى الانتقالية التي ستلي الإطاحة بالنظام وهي مرحلة قلقة ومضطربة وقد تحتاج لإنجازها من عام إلى عامين أو أكثر ثم التوجه في المرحلة الثانية الاستراتيجية التي يستكمل فيها بناء المؤسسة العسكرية بشكلها النهائي في ظل نظام ديمقراطي دائم ومستقر .
إن معالجة وضع المؤسسة العسكرية وإصلاحه يتحدد في هذه المرحلة وإلى حد كبير في ضوء الشكل أو الأسلوب الذي ستتخذه عملية تغيير النظام والتي قد تتم وفق الأساليب التالية :
ـ عن طريق انقلاب قصر ( وهو احتمال ضعيف جدا ) .
ـ انقلاب عسكري واسع أو تمردات عسكرية تدعم بانتفاضات شعبية .
ـ انتفاضات شعبية تدعم بإنضمام وحدات من الجيش والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية بها لتكون شريكة وليست القائدة الوحيدة في قيادة التغيير . وذلك بمساندة وحماية قوى خارجية تنسق مع المعارضة في الخارج ، وبالطبع فإن تحقيق التغيير وإطاحة النظام بأي أسلوب من هذه الأساليب سيفرز أو سيأتي بسلطة سياسية تختلف إلى هذا الحد أو ذاك عن الأخرى في رؤيتها وتصوراتها لمعالجة قضايا مرحلة ما بعد صدام ومنها قضية إعادة النظر بالمؤسسة العسكرية وسبل إصلاحها . لكن مع ذلك ، ومهما يكن الاختلاف في طبيعة السلطة الانتقالية ( في مرحلة غير مستقرة بعد ومضطربة ) والاختلاف في رؤيتها للمؤسسة العسكرية وإصلاحها ، فإن جملة من الظروف والعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة ستفرض على هذه السلطة الانتقالية القيام بإجراءات وتغييرات جدية في المؤسسة العسكرية في ظل بداية مرحلة تحولات ديمقراطية في النظام والمجتمع يتطلع إليها ويدعو لتحقيقها معظم القوى والتيارات السياسية المعارضة .
وفي ضوء ذلك يمكن الافتراض والتوقع أن تتخذ السلطة السياسية الجديدة . والتي يفترض أن تمثل حصيلة إرادات وتطلعات القوى والتيارات التي دعت للتغيير أو ساهمت في إنجازه .
الخطوات التالية خلال الأيام والشهور الأولى التي تلي إطاحة النظام :
أولا. تشكيل لجنة عسكرية مدنية حكومية عليا تضع خطة مرحلية عاجلة لإصلاح المؤسسة العسكرية تأخذ في الاعتبار الآراء والمقترحات التي وضعها متخصصون في المعارضة .
ثانيا. القيام ابتدء باتخاذ إجراءات لأحداث تغييرات واسعة في قيادات الجيش والحرس الجمهوري ثم القيام بتبدلات وإقصاءات ضرورية في مفاصل آمري التشكيلات و وحدات الجيش و الحرس الجمهوري بأساليب شفافة و متروية تراعي حساسية الوضع والانتماءات المناطقية والعشائرية للحرس .
ثالثا. القيام بحل قوات الحرس الجمهوري وإبعاد ضباطه عن المراكز المهمة و الحساسة ثم القيام بعد ذلك بتوزيع وحدات الحرس على وحدات الجيش و تشكيلاته .
رابعا. حل المنظمات المليشاوية و التشكيلات غير الرسمية التي أسسها النظام .
خامسا. إحالة القادة العسكريين و الأمنيين الذين توجه إليهم تهم ارتكاب جرائم بحق الجيش المواطنين إلى محاكم عسكرية أو مدنية عادلة.
سادسا. العمل على ( عسكرة ) الجيش بإعادته تماما إلى الحياة المهنية وإبعاده عن العمل الحزبي و السياسي .
سابعا. ربط الجيش و القوات المسلحة برئاسة أركان الجيش وبوزارة الدفاع والحكومة وتحت إشراف لجنة حكومية خاصة ريثما يتحقق الإشراف للجنة عسكرية برلمانية .
ثامنا. البدء بإجراءات أولية لإعادة النظر في حجم الجيش و صفوفه وحجم تسليحه ومدى الحاجة لجيش دفاعي لا هجومي يدافع عن البلاد ضد أي تدخلات خارجية و تحديد التخصصات والميزانية و المشتريات العسكرية و تقليص التوسع الأفقي و الكمي الذي اعتمده نظام صدام .
تاسعا. البدء بوضع خطة تثقيفية تعيد تثقيف الجيش والقوات المسلحة وفق أسس وطنية كالدفاع عن الاستقلال و السيادة واحترام الدستور وحقوق الإنسان والحياة المدنية السلمية و التعامل الإنساني و الأخلاقي غير الاستعلائي بين الضباط وضباط الصف و الجنود مما يوفر الثقة العالية داخل أفراد المؤسسة العسكرية .
ونعني به هنا التوجه لإعادة بناء المؤسسة العسكرية بمختلف صنوفها على أسس ديمقراطية في النظام و المجتمع الديمقراطي الذي يكون العراقيون قد قطعوا شوطا في بناءه .
وإذا كان تحقيق هذا التوجه , أساسا في المدى المنظور أو البعيد نسبيا فان المباشرة في إنجازه والتأسيس لـه يبدأ منذ المرحلة الانتقالية حيث تتداخل الكثير من الإجراءات و الخطوات في كلا المرحلتين .
أن الخيار الأفضل للجيش و القوات المسلحة العراقية بعد تجربة الحروب و الأدوار التي زج بها في العقود الماضية هو أن :
أولا. يعاد بناءه على أساس جيش دفاعي . أي أن تكون مهمته الأساسية الدفاع عن حدود واستقلال العراق ووضع الضوابط الدستورية و القانونية التي تمنع شنه الحروب ضد الدول المجاورة أو لقمع الشعب العراقي في الداخل .
ثانيا. أن يعاد النظر في حجمه وتعداده بما يمكنه من أداء المهمات الدفاعية الملقاة على عاتقه .
ثالثا. أن يعاد النظر بتسليحه والامتناع عن إنتاج أسلحة الإبادة الجماعية و الدمار الشامل وتشريع ذلك دستوريا .
رابعا. العمل على أن يكون دوره شبيه بدور الجيوش الأوربية أو الجيش الأمريكي حيث الاعتماد على التقنية النوعية العالية من جهة والابتعاد عن العمل السياسي و الحزبي من جهة ثانية أي بما لا يسمح لأي فرد فيه ضابطا أو جنديا ممارسة العمل السياسي الا إذا خرج أو استقال من الجيش على إن يتمتع الجميع بحق التصويت بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية العامة .
خامسا. تأكيد ارتباط الجيش بالحكومة ووزارة الدفاع بتشريع ذلك وتثبيته بالدستور .
سادسا. ربط جميع أجهزة استخبارات الجيش والقوات المسلحة بدائرة العمليات في رئاسة الأركان كما كانت في السابق أو أي صيغ ملائمة أخرى تساعد في قيامها بمهماتها على الوجه الأكمل وعدم تجاوز حدودها و صلاحياتها .
سابعا. تصحيح وإصلاح ( الخلل التاريخي ) في تركيبة الجيش و عموم القوات المسلحة الناجم عن افتقاد التوازن في الانتساب إلى سلك الضباط وفي قياداته وهيئاته العليا الأمر الذي آثار حساسيات مناطقية و مذهبية منذ العهد الملكي و العهود التالية والتي بلغت ذروتها القصوى المدمرة في عهد نظام البعث وصدام منذ اكثر من ثلاثة عقود .
ثامنا. تطوير البرنامج التثقيفي الذي تقرر للمرحلة الانتقالية إلى برنامج اكثر عمقا و تطورا وشمولا لجعل المؤسسة العسكرية إحدى مؤسسات النظام التي تحافظ على الشرعية و الدستور وتطبيق القانون , فضلا عن محافظتها على استقلال و سيادة العراق .
* لا شك أن ثمة شكوك لدى كثيرين في تحقيق نجاح تام في التوجهين الانتقالي و الاستراتيجي ذلك لأن ثقافة القادة و الضباط خاصة في مرحلة الحكم الصدامي , لا توفر أرضية مساعدة لذلك ما لم يتم الإصرار على تجاوز هذه المسألة بإيجاد السبل و الوسائل الملائمة وربما يلعب العامل الخارجي الذي قد يساعد في التغيير دورا فاعلا في تحقيق ذلك إضافة لتوجهات وإصرار الأحزاب و القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني على تحقيق ذلك .