تأسس الجيش العراقي عام 1921 ليكون جيشا مهنيا، وكان الدفاع عن الوطن الممثلُ بالعراق من واجباته الرئيسية، وفي مرحلة التأسيس أشرف على تشكيله وتدريبه ضباط محترفون، نقلوا إليه الضوابط والقيم العسكرية الأصيلة وأستمروا بتعليمها للأجيال التي تلي بشكل طبيعي، وأرسوا كذلك تقاليد معروفة للتعامل بين الأرفع رتبة، والأقل قدما، وحددوا الكثير من العبارات، وأساليب التخاطب والمصطلحات، أعتاد عليها الجيش العراقي، ودرج على استخدامها حتى مجيء صدام إلى الحكم بعد تآمره على البكر عام 1979 ومنح نفسه الرتب والمناصب، الرفيعة والصلاحيات المطلقة.

إن صدام المصاب بداء العظمة لم يكتف بالبقاء في قمة الدولة والحزب، فنزل على الساحة العسكرية يتدخل بالخطط ، ويوجه في شؤون التدريب، ومن ثم يغير بالأسماء والمسميات والألقاب تجاوزا على العسكرية العراقية وتقاليدها التي يشهد الجميع رقيها، فأبدل على سبيل المثال كلمة العسكر بالرفاق، وغير من لفظ الضابط إلى المقاتل، وهكذا الحال في أمور كثيرة حاول أن يحشر نفسه فيها عالما ومعلما، وآخر ما تفتقت به قريحته في مجال الألقاب والمسميات لفظ المجاهدين.

لقب جديد يحاول أن يخلط فيه صدام بين المعايير الدينية التي ترجع إليها صفة الجهاد وبين العسكر الذي يكون الجهاد رمزا لأدائه في الدفاع عن الوطن.

إن صدام الذي يستخدم اللقب، والتعبير والمكرمة في الوقت الذي يريده أدخل معنى الجهاد في قاموسه رغبة منه لربط ما يجري من استهداف لشخصه من قبل التحالف الدولي، وبين معنى الجهاد دفاعا عن الدين الإسلامي الذي اقترن الجهاد تعبيرا عن القتال من أجل الرسالة في مفاهيمه الفقهية.

ومع ذلك نلاحظ أن الغالبية المطلقة من العسكر العراقي ما زالوا يعتزون بالألقاب والمصطلحات والمفاهيم التي توارثوها من بناة جيشهم الأوائل وما زالوا يحسون بوجودها في تفكيرهم، وهم على هذا الأساس لا يمكن أن يقعون في مصائد صدام وافخاخه، ويضحون بأنفسهم من أجل بقاءه حاكما ظالما أوصى الله عز وجل بعدم مجاراته، وإن وصفهم بالمجاهدين، والصابرين.

أن الضباط الذين يتابعون اليوم وقائع الأحداث يعرفون جيدا تاريخ صدام وتلاعبه بالألفاظ، وبعده عن الإيمان، ويعرفون أيضا أنه لم يدخل مسجدا إلا بعد الشعور بالضيق، ولم يدخل ضريحا من أضرحة الأئمة الأطهار إلا عند الشعور بالأزمة، كما كان يحصل في حرب إيران، ويعرفون كذلك أنه ممثل بارع بعيد عن معنى الجهاد.

من هذا لم يبق للضباط العراقيين المنصفين إلا تنبيه غيرهم من الضباط الآخرين ببطلان معنى الجهاد الذي يريده صدام مقاسا على حاله قبل فوات الأوان.        


لندن: 8/3/2003